تزكية النفس

الشرك الخفي

أنواع الشرك بالله:

من معاني الشرك بالله الاعتقاد في آخر مع الله أنه ينفع أو يضر.. هذا الاعتقاد يترجمه صاحبه في صورة التعظيم لمن يشرك به، وكذلك الاعتماد عليه في تصريف أموره وسؤاله حاجاته.

والشرك نوعان: شرك جلي ظاهر، وشرك خفي مستتر.

الشرك الجلي: هو الاعتقاد في آخر مع الله بالنفع أو الضر، مثل الاعتقاد فيمن يسمونهم بالأولياء من الأحياء أو الأموات، وكذلك الاعتقاد في حجر أو شجر أو كوكب أو نجم أو ساحر أو كاهن، ومن ثم تتوجه إليه القلوب بالتعظيم، والألسنة بالسؤال وطلب الحاجات.

وهو أمر خطير﴿ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾ [ الحج: 31 ] .

معنى الشرك الخفي:

أما الشرك الخفي فهو الذي يخفى وجوده على الإنسان من الناحية الشكلية بمعنى أنه لا يعترف بوجوده لكنه متلبس به من الناحية الموضوعية.

ومن أهم صور الشرك الخفي رؤية الإنسان لنفسه بعين التعظيم، واعتقاده في الأسباب التي حباه الله إياها أنها ملك ذاتي له، يمتلكها، ويستدعيها في الوقت الذي يشاء، وأنه يفضل بها غيره.. هذا الاعتقاد قد يكون في جزئية صغيرة، وقد يكون في كل الجزئيات التي تشكل شخصية الإنسان.

أمثلة من الواقع:

فإذا ما أردنا أمثلة عملية توضح مفهوم الشرك بالنفس والذي يطلق عليه العلماء: العُجب، سنجد أمامنا الكثير والكثير.

فالطالب الذي حباه الله موهبة الفهم والحفظ قد يقع في هذا النوع من الشرك إذا ما اعتقد في نفسه القدرة الذاتية على الفهم والحفظ.

والمرأة التي تحسن إعداد الطعام قد تقع في نفس الأمر باعتقادها في خبراتها وقدرتها على القيام بذلك متى شاءت.

وكذلك المدرس إذا اعتقد في قدرته على شرح الدروس، معتمدًا على إمكاناته، وخبراته، وتاريخه الطويل في التدريس.

والداعية الذي يعظ الناس، ويدعوهم فيتأثرون بحديثه، قد يقع في نفس الأمر إذا ما اعتقد في بلاغته وحفظه وقدرته على التأثير.

وكذلك كل من يظن أن عنده شيئًا ذاتيًا ليس عند غيره، مهما كان حجم هذا الشيء.

رأى الحسن البصري كساء صوف على فرقد السبخي فقال: يا فرقد لعلك تحسب أن لك بكسائك على الناس فضلًا[1].

حقيقة العُجب:

يقول ابن المبارك: العُجب أن ترى أن عندك شيئًا ليس عند غيرك[2].

.. فهذا هو جوهر العُجب: أن ترى أن عندك شيئًا ذاتيًا تتملكه، وليس عند غيرك.

.. أن ترى أن عندك مالًا.. أولادًا.. ذكاءً.. موهبة.. كساءً ليس عند غيرك.

فإن قلت ولكن بالفعل عندي من هذه الأشياء ما لا أجده عند غيري.

.. نعم كل منا عنده أشياء ليست عند غيره، ولكن هذه الأشياء ملك من؟!

يقول تعالى: ﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ ﴾ [ المائدة: 120 ]. فكل ما معنا من أصغر شيء إلى أكبره ملك لله عز وجل، أعارنا إياه لننتفع به، ونمتحن فيه ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [ الكهف: 7 ].

فلا يملك أحد – غير الله – شيئًا في هذا الكون ﴿ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ﴾ [ سبأ: 22 ].

فإن اعتقد أحدنا أن المال الذي معه هو ماله لا مال الله، وفرح به، واطمأن لوجوده معه فهذا هو الإعجاب بالمال كمن قال: ﴿ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ﴾ [ القصص: 78 ].

ويتسع هذا المفهوم ليشمل كل شيء يفرح به الإنسان، ويطمئن إلى وجوده معه على أنه ملك ذاتي له.

حمد النفس:

ومن معاني العُجب كذلك رؤية أحدنا لنفسه بعين الرضا والفرح فيما علمت أو عملت وحمدها على ذلك، ولو في جزئية صغيرة، ونسيان أن الله عز وجل هو صاحب كل فضل نحن فيه.

قال المحاسبي: العُجب هو حمد النفس على ما عملت أو علمت، ونسيان أن النعم من الله عز وجل[3].

ويؤكد على هذا المعنى أبو حامد الغزالي فيقول: العُجب هو استعظام النعمة والركون إليها مع نسيان إضافتها للمنعم[4].

سئل رياح القيسي: يا أبا مهاجر ما الذي أفسد على العمال أعمالهم؟ فقال: حمد النفس، ونسيان النعم[5].

فالعُجب خاطر يهيج في داخلك يدعوك لاستعظام عملك واستكثاره فتقول في نفسك: لقد قويت وصبرت واستطعت فعل كذا… لقد جاهدت… لقد فهمت كذا… صمت في يوم شديد الحر… لقد أنفقت كذا… فرحًا من نفسك بقوتها، معظمًا لها مع نسيان نعمة الله عليك في القيام بذلك [6].

الداء الخبيث:

إعجاب المرء بنفسه ولو في جزئية صغيرة يؤدي به إلى استعظامها، ورؤيتها أكبر من غيرها في هذه الجزئية، والاعتقاد في نفعها، وفي أنه يمكنه بذاته أن يستدعى موهبته في أي وقت يشاؤه ليظهر من خلالها فضله وتميزه على غيره.

هذا المفهوم قد يصغر عند البعض، وقد يكبر عند البعض الآخر.

ويظن الكثير منا أن داء الإعجاب بالنفس لا يصيب إلا أهل التصدر بين الناس وأصحاب الإمكانات والمواهب العالية فقط، والحقيقة أن هؤلاء بالفعل أكثر عرضة من غيرهم للإصابة بهذا المرض، إلا أنه لا يصيب هؤلاء فقط، بل يحاول مع الجميع، وينتظر اللحظة المناسبة للتمكن من نفس أي إنسان .

فإن كنت في شك من هذا فما تفسيرك لحالة فقير معدم مجهول بين الناس ومع ذلك هو عند نفسه كبير، بل يرى كذلك تميزه على غيره بما لديه من مواهب متوهمة؟!

إنه داء خبيث يعرف طريقه جيدًا إلى النفوس، فما من موقف إيجابي يقوم به الإنسان – قولًا كان أو فعلًا – إلا ولهذا الداء محاولة للتأثير على نفسه، والعمل على تضخيمها والإعجاب بها ونسيان المنعم سبحانه وتعالى.

قيل لداود الطائي: أرأيت رجلًا دخل على هؤلاء الأمراء، فأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر؟! فقال: أخاف عليه السوط. قبل: إنه يقوى عليه ( يعني أنه وطن نفسه على احتماله إن وقع واحتسابه عند الله تعالى) فقال: أخاف عليه السيف قيل: إنه يقوى عليه. قال: أخاف عليه الداء الدفين؛ العُجب)[7].

فالعُجب آفة العقل – أي عقل – يدعوه دومًا إلى استعظام قوله أو عمله أو أفكاره وحمد نفسه على ذلك.

اللحظات العابرة:

.. إذن فالعُجب داء لا يكاد يسلم منه أحد، وأخطر ما يقوم به هو تضخيمه للذات، ومن ثم تكوينه لصنم داخلي في نفس صاحبه يحمل اسمه. مع ملاحظة الفارق بين لحظات الإعجاب بالنفس العابرة، وبين تأصل هذا الداء داخل الإنسان.

ومع ذلك فإن تجاوب المرء مع تلك اللحظات وعدم مقاومتها سيؤدي إلى تمكن الداء من نفسه شيئًا فشيئًا، ومن ثم تكوين الصنم.

تأمل معي هذا الخبر لتدرك خطورة تلك اللحظات، والعمل على مقاومتها وإغلاق الأبواب أمامها.

تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: لبست مرة درعًا لي جديدة فجعلت أنظر إليها فأعجبت بها. فقال أبو بكر: ما تنظرين؟ إن الله ليس بناظر إليك!

قلت: ومم ذاك؟ قال: ما علمت أن العبد إذا دخله العُجب بزينة الدنيا مقته الله عز وجل حتى يفارق تلك الزينة!

قالت: فنزعته فتصدقت به.. فقال أبو بكر: عسى ذلك أن يكفر عنك[8].


[1] الزهد للحسن البصري – تحقيق د. محمد عبد الرحيم محمد – ص159 – دار الحديث – القاهرة .

[2] سير أعلام النبلاء للذهبي 8 / 407 – مؤسسة الرسالة – بيروت .

[3] الرعاية لحقوق الله للمحاسبي ص 420 – دار اليقين – المنصورة – مصر .

[4] إحياء علوم الدين 3 / 574 – دار الحديث – القاهرة .

[5] الرعاية لحقوق الله ص 429 .

[6] المصدر السابق – بتصرف ص 421، 422 .

[7] تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين لابن النحاس ص 52 .

[8] العجب لعمر بن موسى ص 98 – نقلًا عن حلية الأولياء لأبي نعيم 1 / 37 .