غير مصنف

كيف نحفظ القرآن عن طريق تتبع جوانب الهداية؟

حدثنا في الحلقة السابقة أن هدفنا في هذه الزاوية هو أن نحفظ القرآن بالطريقة التي كان الصحابة يحفظونه بها ،فقد كانوا يحفظون عشر آيات ( وفي رواية أخرى خمس آيات )فلا يجاوزونها إلى العشر التي تليها حتى يعلموا ويعملوا بما تحويه تلك الآيات من هداية وإرشاد …

ولقد ورد عن عمر رضي الله عنه أنه حفظ البقرة في اثني عشر عاما لأنه كان يحفظ ويعمل بما حفظ ..

وقد ذكرنا أن هناك عشرة محاور أو جوانب للهداية ؛ هذه الجوانب تكررت في القرآن كثيرا ، ومن خلالها إن شاء الله سوف تكون طريقتنا في الحفظ . وقد تم إجمال تلك الجوانب سابقا ، واليوم نفصل – إن شاء الله – ما أجملناه سابقا .

الجانب الأول: من هو الله ؟

إنه السؤال الذي نزلت جميع الكتب السماوية لتجيب عنه ، وذلك ليتعرف الناس على الله من خلال كتبه التي فيها كلامه ،والذي هوأصدق وأقصر وأنجح طريق للتعرف على الله سبحانه ؛ ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه : (عرفت ربي بربي ، ولولا ربي ما عرفت ربي)

يقصد رضي الله عنه أنه عرف الله من خلال كتابه العزيز .

ونحن نجد ذلك الجانب ( التعريف بالله ) واضحا كل الوضوح في القرآن، حتى لا تكاد سورة – مهما صغُرت – تخلو منه … واقرأوا إن شئتم سورة الإخلاص ، أو آية الكرسيّ…ولا شك أن هذه السورة وتلك الآية قد اكتسبتا فضلا كبيرا بسبب كونهما تتحدثان عن الله سبحانه وتعرفان به .

ثمرة البحث عن هذا الجانب:

من خلال البحث عن إجابة هذا السؤال :مَن هو الله ؟ سنتعرف على الله سبحانه ، والمعرفة بوابة العبودية ، أي أنه مَن عرف الله أكثر كان لله أعبَد ، وكان لله أتقى وأخشى وأرجى ….ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : ” أما إني أعرَفُكم بالله وأخشاكم له “

وقال : مَن كان بالله أعرَف ،كان لله أخوَف إذن.. حسن التعرُّف على الله يؤدي إلى حسن العبودية له ،وبالتالي حسن العبادة ..

كيف سنستخرج إجابة السؤال ؟

1-البحث عن أسماء الله الموجودة في الآيات : السميع -البصير –العليم الخبير- القدير ….

2-البحث عن صفات الله سبحانه في الآيات : (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ) [غافر : 3]. . (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) [الرعد : 9].

3-البحث عن أفعال الله في الكون : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ)[الرحمن : 19] …( اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ ….) [الروم : 48] (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ..) [الأنعام : 60].

الجانب الثاني : حقوق الله على العباد:

والمقصود بها حقوق الربوبية ، فالله سبحانه هو رب العباد ، ولذا فله عليهم حقوق لابد من أن يلتزموا بها بما تقتضيه ربوبيته لهم .

الهدف من البحث عن هذا الجانب :
من الأهمية بمكان أن يعرف العبد حقوق ربه عليه ، وذلك ليؤدوها خير أداء ، ويعبدونه حق العبادة (ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا)… ولقد أفاض القرآن في الحديث عن هذا الجانب أيضا :

*(وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ) [النساء : 36] … حق العبادة والتوحيد وعدم الشرك
*( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) [طه : 14] .. إقام الصلاة
*(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) [النصر : 3]… التسبيح والحمد والاستغفار

  • (وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ )[العنكبوت : 17] … العبادة والشكر

الجانب الثالث : مَن هو الإنسان ؟
سؤال يجيب عنه القرآن فيُعرِّف الإنسان بنفسه التي بين جنبيه ، فهو لا يعرف نفسه كما يعرفها خالقها وبارئها ( أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ )[الملك : 14]؟ ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ )[ق : 16]…

وسنجد إجابة هذا السؤال في آيات كريمات مثل : ( وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) [النساء : 28].
(وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا) [الإسراء : 11]… ( وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا )[الكهف : 54].
(وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا )[الفجر : 20] … ( وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ) [الأحزاب : 72].
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ) [آل عمران : 14].

وكذلك إذا كان ذلك الإنسان مؤمنا تقيا : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)[البقرة : 3].

أو كافرا شقيا : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ ..)[محمد : 12].

الجانب الرابع من جوانب الهداية : (حقوق العباد بعضهم على بعض )
الله سبحانه يحب عباده ، ويريد لهم أن يحيوا في سعادة وراحة ؛ وذلك لكي يقوموا بعبوديتهم له بشكل أفضل ، ولأن الإنسان اجتماعي بطبعه ،ولا يستطيع أن يحيا بمفرده ؛لذا فقد أوجب الله على العباد حقوقا يلتزمون بها تجاه بعضهم البعض ، فإذا ما فعلوا ذلك ، وإذا ما عرف كل فرد ما له وما عليه ،ساد السلام والسكينة والثقة والحب بين جميع الأفراد .

ومن أمثلة ذلك : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ) [الحجرات : 11].. (وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ) [الحجرات : 11] . . ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ )[الحجرات : 12] .. ( وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) [الحجرات : 12] (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) [الحجرات : 9] (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [البقرة : 83] ( وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ) [النساء : 2] (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) [الإسراء : 26]….. وهكذا

تلك الآداب والتعاملات التي صاغها القرآن في أروع و أرقى ما تكون الآداب والتعاملات إذا طبقها كل فرد والتزم بها على المستوى الشخصي فلا نتخيل مدى الرقيّ الاجتماعي الذي سيعيشه المجتمع المسلم حين يصبح كل فرد فيه آمنا في أهله وعرضه ، واثقا في المحيطين به مطمئنًا لهم … وهكذا حتى يتحقق مراد الله عزَّ وجل من ذكر هذا الجانب في القرآن .

الجانب الخامس: قصة الوجود
إنها قصة وجودك على الأرض أيها الإنسان ، بداية من خلقك ، ثم نزولك إلى الأرض لأداء الامتحان الكبير ” امتحان العبودية ” ، فالدنيا هي قاعة الامتحان ، ومواد الامتحان هي المواد المتعلقة بالعبودية ، كالخوف والرجاء والصبر والشكر والرضا والتوكل و…

وأما أدوات الامتحان فهي :المال والبنون والصحة والعقارات والمجوهرات والأراضي و….
وبعد أن تُنهي آخر مجموعة من البشر امتحانها ، تُهَدَّم قاعة الامتحان ” الدنيا “. . (وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ) [الكهف : 8] ،ويقف الجميع في انتظار نتائج ما أبلَوه في امتحاناتهم . . (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ) [هود : 105].

فإذا كانت إجاباتك صحيحة ستنجح في الامتحان ، والمكافأة (الجنة ) ، وإذا كانت غير ذلك ، فلا تلومن إلا نفسك لأنك لم تُعِد لهذا الامتحان عُدَّته … إذن يوم القيامة هو أحد فصول تلك القصة ؛بل هو آخر فصولها ( وإنها لجنةٌ أبدًا ، أو لنارٌ أبدًا )
(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ) [الانشقاق : 7 – 9] …(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ) [الانشقاق : 10 ، 11] ).

الأمثلة :
(الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) [الكهف : 46].
( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الكهف : 7].
( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ) [الحديد : 20].

الجانب السادس: من هو الشيطان؟

إنه العدو القديم الحديث للإنسان ..

إن قصة عداوة الشيطان لبني آدم أزلية، بدأت منذ خلق آدم عليه السلام واستمرت، وتستمر استمرار وجود الجنس البشري.. فلقد أقسم إبليس – لعنه الله – بعزة الله سبحانه على أن يغوي بني آدم أجمعين، لأنه يراهم سبب شقوته وطرده من الجنة ..

لم ينس إبليس قسمه وعداوته للبشر.. الذي ينسى ذلك دائما هو الإنسان لذلك اتبعت طائفة كبيرة من بني الإنسان إبليس وأعوانه، ولذلك كان لزاما أن يستمر التحذير من الشيطان والتذكير بشرِّه وإغوائه في آيات القرآن ، وكذلك عرض قصته مع آدم عليه السلام عليه السلام في أكثر من سورة : ﴿ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى ﴾ [طه : 120].

﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الحجر : 39].

كذلك ورد في القرآن طريقته في الغواية وأساليبه في الصد عن سبيل الله ﴿ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الأعراف : 16] .

﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ﴾ [البقرة : 268].

﴿ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [المجادلة : 10].

وقد أورد القرآن في أكثر من موضع كيفية التغلب على إبليس وهمزه ونفثه:

﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ﴾ [فصلت : 36].

﴿ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ﴾ [المؤمنون : 97]..

الجانب السابع: السنن الإلهية التي يحكم الله بها الكون :

إنها تلك القوانين التي يُسِّر الله بها الكون .. وتنقسم إلى قوانين ” مادية ” وأخرى ” معنوية ” ..

فأما المادية: فهي مثلًا كمرور الجنين بأطوار في بطن أمه .. تعاقب الليل والنهار.. غليان الماء عند درجة مائة.. وهكذا.

وكما نرى أن القوانين المادية يشترك فيها وينتفع بها البشر جميعا، مؤمنهم وكافرهم ، وإن كان الفريق الثاني ينتفع بها أكثر ..

أما القوانين المعنوية فهي تخص المؤمنين فقط ، ولا ينتفع بها غيرهم ، فما هي تلك القوانين ؟

إنها أشبه بمعادلات كيميائية؛ حيث لابد من حدوث عملية ما لكي تحدث النتائج في الطرف الآخر من المعادلة.. وإذا لم يتم الطرف الأيمن من المعادلة لن يتم الطرف الآيسر.

مثال:

﴿ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾ [التوبة : 67].

﴿ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ .. وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال : 30].

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد : 11]… وهكذا.

.. هنا نرى وكأن لهذه القوانين عنوان رئيسي هو: « البداية من العبد ».. أو «الجزاء من جنس العمل»…

مثال: ﴿ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ﴾ [النساء : 123].

.. وفائدة دراسة هذا الجانب وتتبعه في القرآن الكريم أن يكون الإنسان دائم اليقظة، حريصا على ما ينفعه؛ فيطلبه ويجتهد في تحصيله حتى ييسره الله له .

أي عليه استخدام هذا القانون للحصول على ما يريده من الله « فاستهدوني أهدكم»[مسلم]، « ومن يستعفف يعفه الله ، ومن يتصبر يُصبره الله »[البخاري].

الجانب الثامن: لماذا لا يتبع الناس الحق ؟ ( شبهات المكذبين والرد عليها ).

أوضح القرآن في أكثر من موضع أسباب تكذيب المكذبين وعنادهم وإعراضهم عن الحق بل ومعاداته، ومحاولة النيل منه.

وبشكل عام.. فإن عدم انصياع الإنسان للحق مرده أمران:

1- جهله بأن هذا هو الحق.

2- هواه الذي يصرفه عن اتباع الحق.

فأما الصنف الأول، فأمرهم هين؛ لأنهم بمجرد علمهم بالحق وانتفاء « جهلهم به » فإنهم يستجيبون ويسهل قيادهم ﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [النمل: 44].

أما الصنف الثاني: فهو صنف بعيد عن سماع النصيحة والعمل بها، وذلك لأن صاحبه منقاد إلى «هواه» يصرفه كيف شاء، وطالما رأى أن الحق معارضا لهواه فهو يعترض عليه ويكذب به حتى وإن أيقن تمام اليقين أن هذا هو الحق فعلا، ألا ترى قول المشركين: ﴿ وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ﴾ [القصص : 57]..

إنهم يعلمون انه «الهدى» .. إذن.. فما المشكلة؟!

المشكلة أنهم باتباعهم له قد يفقدون مناصبهم ومصالحهم وتجارتهم وسيادتهم وهم لا يريدون ذلك..

﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف : 31].

.. أي أنهم مؤمنون بهذا القرآن وأنه من عند الله ، ولكن المشكلة فيمن يقترحونه هم لِنزل عليه القرآن..

وهذا الجانب يوضح لنا أيضا أن المكذبين قد يفعلون أي شيء في سبيل أن يشوهوا صورة الحق وأهله ولذلك يرد القرآن على كثير من شبهاتهم وافتراءاتهم ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل : 103].

﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ﴾ .. ﴿ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [هود : 13].

﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الجمعة : 6].

﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ﴾ [هود : 35].

الجانب التاسع: العبرة من قصص السابقين:

يحتل القصص مساحة ثلث القرآن تقريبا .. وكما نعلم أن للقصة دور مهم في التأثير على النفوس، والأخذ بمجامع القلوب والعقول: ﴿ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف : 176].

والعجيب أن القصة قد تجمع في طيات أحداثها جميع جوانب الهداية السابق ذكرها؛ فمن خلالها نتعرف على الله سبحانه ﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ ﴾ [القصص : 81] ، ﴿ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ﴾ [الكهف : 11].

ونتعرف كذلك على سنن الله الحاكمة للكون ﴿ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ﴾ [سبأ : 16].

وكذلك نتعرف على الشيطان وكيده ﴿ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى ﴾ [طه : 120].

ونتعرف كذلك على طبيعة النفس الإنسان والبشرية ﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ﴾ [يوسف : 53].. ﴿ وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي﴾ [طه : 96].

وأسباب عدم اتباع الناس للحق ﴿ قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ﴾ [هود : 87].

.. وبهذا نرى أن للقصة أثر تربوي عظيم، لذلك احتلت مكانًا معتبرًا على صفحات القرآن الكريم..

أمثلة:

  • «سورة يوسف».
  • «سورة الكهف : أصحاب الكهف – موسى والخضر – ذو القرنين».
  • «سورة القصص ».
  • «سورة النمل».

الجانب الثامن: مَن هو الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
الله سبحانه اصطفى من البشر اُناسا وكلفهم بإبلاغ رسالته للناس ،وإيضاح المنهج الصحيح لهم ، وهدايتهم- بإذن الله – إلى طريق الله ،وتعليمهم كيف يعبدونه ويتقربون إليه ، فمن هو الرسول ؟
إنه بشر يوحى إليه ، فهو لا يملك قدرات خارقة إلا في حدود ما آتاه الله من معجزة تبرهن على صدقه ، أما بخلاف ذلك فهو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق …

والمتأمل في حديث القرآن عن الرسل عليهم صلوات ربي وسلامه ، يجد أن الله سبحانه يربي رسله وأنبياءه على التواضع والعبودية والخضوع له وحده،حتى إنه سبحانه يثني عليهم فيصفهم بأنهم عبيد (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ) [الإسراء : 1].. (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ ) [الفرقان : 1].. (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) [الإسراء : 3]… (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) [ص : 30]..(وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ) [ص : 17] .. وكذلك يحثهم على اللين وخفض الجانب والصبر على أقوامهم ،
والهدف من تتبع هذا الجانب هو الاقتداء بهم في أخلاقهم وعبوديتهم وعباداتهم وأدبهم مع الله وخشيتهم له وتواضعهم و…

وإليكم بعض الأمثلة :
( قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ) [يونس : 49].
(وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ) [هود : 31].
(وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَ يُغْوِيَكُمْ..) [هود : 34].
( فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ ؟) [هود : 63] .
( فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ )[هود :45، 46 ، 47].
(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم : 4].

( أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا )[مريم : 58]

الجانب التاسع : ما هو القرآن ؟

ونستطيع أن نسمي هذا الجانب ” القرآن يتحدث عن نفسه “… وفيه سنجد أن القرآن أخبر عن نفسه بأنه كتاب هداية وشفاء ومصدر عزة ودستور ومنهج حياة وبشير ونذير …ولنتتبع ذلك :

﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء : 9].

﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان : 1].

﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [الأنبياء : 10].

﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة : 15 ، 16].

﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [الحشر : 21].

وهكذا في كل نظير ، يعرفنا القرآن بنفسه وبأنه وسيلة لزيادة الإيمان (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) [الأنفال : 2] ، وأنه سبيل الرفعة والعزة ؛لأن فيه الطريق الموصل إلى الله ، وكيف لا وهو كلامه سبحانه ؟