غير مصنف

مدارسة وحفظ سورة الفجر.. الحلقة الثانية

تابع سورة الفجر

(فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) [الفجر:15]

قصة الوجود:

الدنيا دار إمتحان وإبتلاء، وقد يكون الإمتحان في صورة (عطاء) وبالتالي يكون مقدار النجاح فيه بمقدار شكر العبد وإمتنانه لربه، وقيامه بأعمال تعبر عن ذلك الشكر (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا) [سبأ:13]

وقد يكون الإبتلاء في صورة (منع) وتضييق، فيكون نجاح العبد فيه بمقدار صبره ورضاه عن الله سبحانه

أي أن في العطاء والمنع إبتلاء، فهل فطن الإنسان لذلك؟

( فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) [الفجر:15،16]

من هو الإنسان؟

الآيه تؤكد أن الإنسان لم يفهم حكمة الله سبحانه في المنع والعطاء، وبالتالي فقد رأى العطاء كرامة ونعمة، بل وظن نفسه أهلاً لهذا الإكرام والإنعام ولذلك فهو أيضا يعتبر التضييق وصعوبة العيش وقلة الرزق إهانه من الله له؛ وذلك من جهله بالله سبحانه يقول ابن عطاء:

(متى كنت إذا أُعطيت بسطك العطاء، وإذا مُنعت قبضك المنع، فاستدل بذلك على طفوليتك، وعدم صدقك في عبوديتك).

..نعم، فالأطفال هم الذين لا يدركون ما وراء الأحداث من حِكَم وفوائد، كما أن الذين تنقصهم العبوديه لايتمثلون بسهولة لأقدار الله سبحانه ..هذا للأسف هو الإنسان ..لذلك تجده قليل الشكر في السراء (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ: 13]، وقليل الصبر في الضراء.

من هو الله سبحانه؟

يختبر عباده ليعلم (وهو أعلم بهم) مدى صدقهم في تقبل أقداره خيرها وشرها، ومدى رضاهم عنه سبحانه؟ وبذلك يتميز الخبيث من الطيب.

فائدة:

من الناس من ضربوا أمثلة رائعة في الرضا عن الله سبحانه رغم عظم ابتلائهم ..

ومنهم (عمران بن الحصين) رضي الله عنه ..حيث كان مبتلي بشلل كامل في جسمه إلى حد أنه كان يرقد على سرير مثقب؛ حتى لا يتقرح جسمه من طول الرقاد …ولقد ظل على هذا الحال ثلاثون عام، لم يشك ولم يتبرم، حتى أن الملائكة كانت تسلم عليه في صعودها ونزولها.. وعندما أشفق أحد أصحابه عليه وعلى سوء حاله قال كلمات تكتب بماء الذهب: (أحبه إليه، أحبه إليّ).
أما سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه، والذي كان مستجاب الدعوة، لذا كان الناس يقصدونه ليدعو لهم.. وعندما أصيب بالعمى تعجب الناس من حاله وسألوه: ألا تدعو الله ان يرد عليك بصرك؟! فقال كلمته الشهيرة: (قضاء الله أحب إليّ من بصري).
أما القدوة والإمام، رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزوة أحد، وبعد الهزيمة ودخول حلقتي المغفر في خده الشريف، إذا به يأمر الجنود قائلاً: (صُفوا خلفي لأثني على ربي)… رغم آلام الجيش وجراحه ورغم التمثيل بعمه حمزة.. إذا هو يُعلم أصحابه كيف يكون الرضى عن الله سبحانه وفي أصعب الإبتلاءات ضراوة… صلى الله عليه وسلم.
(كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ، وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ،وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا) [الفجر:17:19]

ماهو القرآن؟

القرآن يرد على الشبهات، ويمحصها ويفندها ويدحضها.. كلا.. ليس الإنعام دليل كرامة، وليس السلب والتضييق دليل إهانة..

بل الأمر أبعد مما يتخيله ذلك المسكين.. فالإنسان هو الذي يكرم نفسه بالطاعة، ويهينها بالمعصية.. فكما أن (الكرامة على قدر الإستقامة)، فإن المهانة بما كسبت يدا العبد (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) [آل عمران:165] ،(وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء:79]

من هو الإنسان؟

شحيح قتور، بدليل عدم إكرامه لليتامى، وعدم حنوه عليهم، رغم أن الدين يحضه على ذلك، ولكنه جبُل على الشح المادي والمعنوي (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) [النساء: 128].

  • وليس ذلك وحسب، بل إن هناك صنف من البشر سلبياً خاملاً فلا يكلف نفسه بأن ينصح بني جنسه ويوجههم ويحضهم على إطعام المساكين والرأفة بهم، فالكل مشغول بنفسه، يعيش لها ويفكر فقط في مصلحتها..والدليل على ذلك: ظهور تلك الطائفة التي تستحل أكل الميراث الذي قسمه الشرع فيتحايلون ويمكرون لينهبوا الحقوق والمواريث بكل نهم وشراسة، وذلك بسبب حبهم الشديد وشرههم للمال، ذلك الحب الذي قد يفوق حبهم لأولادهم ولدينهم وربهم وكل شيء.

(كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ، وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ، وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ، يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) [الفجر:21:24]

قصة الوجود:

إنه يوم إنتهاء الإمتحان.. فتغلق قاعة الإختبار “الأرض”، بل وتدك دكاً، فقد انتهى دورها بإنتهاء الإمتحان، وما وجودها إلا مرحلة من قصة وجود الإنسان.. لتبدأ بعدها مرحلة أخرى وفصل آخر من فصول القصة وهو “الحساب”، يوم الدين، يوم الجزاء، يوم توزيع الشهادات والدرجات، يوم يُكرم المرء أو يُهان.. نعم إنها الكرامة الحقيقية، أو المهانة الحقيقية.. نسأل الله العافية

.. وياله من مشهد عظيم مهيب.. حيث يأتي الله سبحانه جل جلاله ملك الملوك ومعه الملائكة يصطفون صفوفاً..

ثم يُجاء بجهنم – أعاذنا الله منها – لها سبعون ألف زمام، يجر كل زمام سبعون ألف ملك.. يا الله ما أشد الهول يومها، حتى إن الإنسان ساعتها ينتبه ويتذكر – ولكن متأخراً جداً جداً – فأنى له الذكرى وقد قُضيّ الأمر وانتهى الإمتحان؟!

من هو الإنسان؟

الغفلة من طباعه، فهو كثيراً ما ينتبه بع فوات الأوان

يعيش غافلاً، أو متغافلاً، تائهاً، تذهب به الدنيا وتأتي – إلا من رحم ربي – فإذا قامت القيامة (قيامته الصغرى)؛ أي حين يحضره الموت إذا به يدرك الحقيقة التي تغافل عنها في حياته وابتعد عنها بمحض إرادته..

أما يوم القيامة (الكبرى) فإن المسكين لا يملك سوى أن يرسل الحسرات تلو الحسرات، والزفرات والأنات والعبرات..ولات حين مندم، ساعتها يتمنى ان لو كان قد قدم شيئاً ينفعه في ذلك اليوم، ويندم أشد الندم على تقصيره في جنب الله، ويتمنى الرجعة حتى يصلح ما أفسده ولكن هيهات..(كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا..) [المؤمنون:100]

(فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) [الفجر: 25:26]

من هو الله؟

الحكم العدل، فلا تزر وازرة وزر أخرى، وكل إنسان سوف يحاسب على عمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، فلا يُعدَّن أحدٌ بذنوب أحد، بل كلٌ مسئوول عما قدمه في الدنيا..

قصة الوجود:

في يوم الحساب والجزاء.. يُجازى المحسن على إحسانه والمسيء على إساته، (لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ) [غافر:17].. وكما كانت الدنيا دار عمل، ولا حساب، فالآخرة دار حساب ولا عمل..

(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ، وَادْخُلِي جَنَّتِي) [الفجر:27:30]

من هو الله؟

الودود الكريم، أعد لعباده الصالحين الطائعين الذين عملوا على تزكية أنفسهم وتربيتها حتى أصبحت نفوساً مطمئنة طاهرة نقية، أعد لهم جنة عرضها السماوات والأرض، فيها ما لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر..

فهو الكريم الجواد الرب الرؤوف المحب لعباده..

قصة الوجود:

بعد بيان حال الإنسان الغافل، وندمه على ماقدمه في الدنيا، ثم يأسه يوم القيامة من أن يحمل عنه أحد العذاب أو الوثاق.. توضح الآيةهنا جانباً مضيئاً من أصناف البشر، إنه “الإنسان الصالح”، المطيع لربه، وقد انتهى امتحانه بالموت، وقد سلّم ورقة الإختبار ناصعة مشرفة لأنه كان دائم التزكية والتطهير لنفسه؛ فقال لنفسه الطاهرة (ارجعي إلى ربك راضية بما أعدَّ لك من الثواب والجزاء، مرضية بأعمالك الصالحة).. فما أجملها من نهاية وما أسعدها من خاتمة!!

واجبات ودروس مستفادة:

1- اليقين بأن الله سبحانه بالمرصاد، وأنه يمهل الظالمين ولكنه لا يهملهم… وإسقاط ذلك على واقعنا الحالي…فنعلم علم اليقين أن الله سينتقم من أعداء دينه ولكنه يُملي لهم ليزدادوا إثماً.. فإذا أخذهم فسيأخذهم أخذ عزيز مقتدر.

2- نهاية قوم عاد وثمود هي النهاية الطبيعية للظالمين والطواغيت مهما انخدع الناس بعلوهم وظهورهم وقوتهم وبأسهم، فإن الله لهم بالمرصاد (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ)[الأنفال:59] (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) [النور:57].

3- الإنعام، واتضييق، كلاهما ابتلاء واختبار من الله سبحانه (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء:35]..

والمؤمن هو الذي ينجح في الإختبارين بنفس الدرجة من التفوق والتميز (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرّاء شكر؛ فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر؛ فكان خيراً له). رواه مسلم.

4- وجوب إكرام اليتامى مادياً ومعنوياً، وتعويد الأطفال على ذلك فإن أفضل البيوت عند الله سبحانه بيت فيه يتيم يُحسن إليه.

5- إطعام المساكين، وإكرامهم، وفعل ذلك أمام الصغار، بل وإشراكهم في هذا الأمر؛ مع تذكيرهم بفضل ذلك وقدره عند الله.

6- علاج “شح النفس” بكثرة الصدقة والإنفاق وتعويد “اليد” على الإنفاق اليومي لعلاجها من البخل والتقتير ولكي تكون يداً عليا.

نصيحة:

قراءة شرح حديث: «مَثَلَ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ. كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُنَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ. قَدِ اضْطُرَّتْ أَيْدِيهِمَا إِلَىٰ ثُدِيِّهِمَا وَتَرَاقِيهِمَا. فَجَعَلَ الْمُتَصَدِّقُ كُلَّمَا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ انْبَسَطَتْ عَنْهُ. حَتَّىٰ تُغَشِّيَ أَنَامِلَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ. وَجَعَلَ الْبَخِيلُ كُلَّمَا هَمَّ بِصَدَقَةٍ قَلَصَتْ. وَأَخَذَتْ كُلُّ حَلَقَةٍ مَكَانَهَا». وهذا تفسير قوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ) [الإسراء:29]

طريقة عملية:

اتخاذ حصالة منزلية للصدقة (لكل أفراد البيت) علبة مناديل فارغة أو كأساً أو ماشابه ذلك).

7- تحبيب الأطفال في الله (الودود) (الرب) (الحكم العدل).. الذي أعد لعباده الصالحين جنة صنعها بنفسه لهم، وكذلك يتخلص من أعداء دينه الذين يفسدون الأرض ويتكبرون وذلك ليسعد الصالحون ويهنأوا ويطيبوا عيشاً، فلا يستوي المفسد والمصلح أبداً عند الله سبحانه.

تمت بحمد الله