الإيمان والحياة

منزلة الإنسان عند الله

كرَّم الله عز وجل الإنسان تكريمًا عظيمًا، وفضَّله على سائر خلقه بأن اختصَّه بما لم يختص به أحدًا منهم.. فقد نفخ فيه- سبحانه- من روحه القدسية، وطلب من الملائكة الأطهار أن تسجد له: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ . فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) (ص).
هذا التكريم العظيم للإنسان يعكس حب الله عز وجل الخاص له، فالجسد الذي يحمل بين جنبيه نفخة من روح الله القدسية لا شك أن له مكانة ومنزلة عظيمة عند الله، ولقد علمت الملائكة بهذه المنزلة واستشعرتها فجعلت جزءًا من عبادتها: دعاءها لمن في الأرض، وهي بذلك تريد التقرب إليه- وتطمع في نيل رضاه من خلال الدعاء والاستغفار لأحبابه (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ) (الشورى: من الآية 5).

ويزداد تقربهم إليه سبحانه بكثرة الدعاء والاستغفار لمن لهم مكانة خاصة عنده من البشر: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ . رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (غافر).
فإن كنت في شك من هذا فماذا تقول في قوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: “لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم”؟!!!!

الجنة تنتظرك
ومن أعظم مظاهر حب الله لعباده إعداده سبحانه الجنة لتكون دارًا أبدية لهم.. يقيمون فيها إقامة دائمة بلا تعب ولا نصب ولا تكاليف.. بل نعيم مقيم لا يحول ولا يزول: (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (الزخرف) ولقد جعل سبحانه دخول هذه الجنة مشروطًا بالنجاح في امتحان يعقد على ظهر الأرض لجميع البشر.. جوهر هذا الامتحان هو عبادته سبحانه بالغيب، والقيام بحقوق العبودية له.

ولأنه الرب الودود يريد لعباده جميعًا الخروج من النار ودخول الجنة (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ) (البقرة: 221)، فقد خلقهم بطريقة وهيئة وأوصاف تعينهم وتيسِّر لهم النجاح في امتحان عبوديتهم له كما سيأتي بيانه في الصفحات القادمة.

العبودية والتكريم

ولقد خلق الله عز وجل الأرض فيها للإنسان: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا) (البقرة: 29)، وجعلها مسخرةً له فهو مستخلف فيها، عليه أن يعمرها ويكتشف مكنوناتها ويسخرها لخدمة مهمته ووظيفته عليها: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) (الملك: 15)

ومما تجدر الإشارة إليه أنه ليس هناك تعارض بين قيام المرء بحقوق العبودية لله، وبين قيامه بدوره العظيم في الأرض كمستخلف فيها، وسيد لها، فالإنسان- كما يقول الإمام محمد عبده- عبد الله، وسيد لما سواه.
بمعنى أنه كلما حقق الإنسان صفات العبودية لله، تحرر من العبودية لما سواه، وأدرك قيمته في الكون، وأصبحت الأرض بما عليها خادمة له، وليس العكس، وهذا من شأنه أن يجعل ذلك الإنسان يطلق قواه الكامنة، فيحسن القيام بواجب الاستخلاف في الأرض.
يقول محمد إقبال: إن المؤمن إذا عرف قيمة نفسه اقتنص هذا العالم، واقتنص هذه الأرض والسماء في بعض ما يقتنص.

كل هذا مرتبط بمدى تحقيقه وارتدائه لرداء العبودية لربه.
وليس أدل على صحة هذا الكلام من الجيل الأول صحابة رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- الذين جمعوا بين الأمرين بنجاح منقطع النظير كانوا يعيشون في حقيقة عبوديتهم لربهم من تواضع وذل وانكسار له سبحانه، وفي الوقت نفسه كانوا يدركون قيمتهم في هذه الأرض وأنهم قادتها وأسيادها، فاستجابت لهم الأرض، وفتحت لهم أذرعها، فتمكنوا منها، وسادوا العالم في سنوات معدودة.

وليس ذلك فحسب بل كانت عبوديتهم الحقة لربهم وحده دافعًا عظيمًا لتحركهم الدائم وجهادهم الطويل لتحرير الناس من العبودية لغير الله، ولعل في ما قاله ربعي بن عامر- رضي الله عنه- لرستم قائد الفرس ما يؤكد هذا المعنى عندما سأله: ما الذي جاء بكم؟ فأجابه: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
وفي هذا المعنى أيضًا يقول سيد قطب- رحمه الله: “فما يمكن أن يستوي الإنسان في مكانه الذي خلقه الله عليه “في أحسن تقويم” ولا يرتكس إلى أسفل سافلين وما يمكن أن تستقيم حياة البشر وأوضاعهم، ولا أن تصلح ضمائرهم وأخلاقهم، ولا أن يتطهر سلوكهم وأعمالهم، ولا أن يحسنوا التعامل مع الكون ونواميسه ومدخراته، ولا مع الأحياء التي بثها الله من حولهم، وسخر لهم منها ما سخر، ولا يستقر الأمر بينهم على أساس المساواة الكريمة والعدل الجميل، ولا يكف طغيان الطغاة، ولا أن ترتفع جباه المستضعفين ولا أن تتحقق الكرامة التي أرادها الله لهذا الكائن الكريم.