الإيمان الحق بالله عز وجل يعني : الثقة به سبحانه ربًّا قادرًا على فعل أي شيء .. قريبًا مجيبًا ..حاضرًا غير غائب .. عظيمًا جليلًا .. رؤوفًا رحيمًا ..
وكلما تمكنت هذه الثقة في قلب العبد تبددت منه المخاوف التي ترهب الناس : كالخوف من سطوة الظالمين والخوف من المستقبل المجهول وما تخبئه الأيام .
وكلما ضعف الإيمان ، وقلت الثقة زادت المخاوف ، وظهرت أمارات الهلع والفزع والاضطراب عند التعرض لابتلاء أو نقص أو تضييق ، ألم يقل سبحانه ﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ﴾ [آل عمران : 151] .
فالمشرك بالله يعاني من ضعف بل انعدام الثقة به سبحانه ، وتظهر الثمرة المُرة لهذا الشرك عند النقص والابتلاء : رعبًا وفزعًا وهلعًا .
.. يقول ابن تيمية : الخوف الذي يحصل في قلوب الناس ( كالخوف على فوات الرزق ، والخوف من المستقبل المجهول ) هو الشرك الذي في قلوبهم ([1]) .
وفي المقابل تجد المؤمن هادئ النفس ، رابط الجأش ، مطمئن القلب عند تعرضه للمحن والبلايا والأقدار المؤلمة ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ﴾ [آل عمران : 173 – 174] .
﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب : 22] .
من هنا ندرك معنى القول بأن : « حسبنا الله ونعم الوكيل » هي كلمة المؤمنين عند مواجهة المواقف الصعبة .
وكلما ازداد الإيمان ازدادت الثقة بالله حتى تصل لذروتها فتصبح ثقة مطلقة يقينية أشد رسوخًا من الجبال الرواسي ، وتظهر آثارها وقت الأحداث المتشابكة والعصيبة ، كمثل ما حدث لموسى عليه السلام عندما خرج مع بني إسرائيل فرارًا من فرعون لكنه أدركهم بجنوده ليصبح البحر أمامهم وفرعون وراءهم فيقول أتباعه : ﴿ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ [الشعراء : 61] فيجيب عليهم بهدوء الواثق في ربه : ﴿ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء : 62] .
وفي رحلة الهجرة وبينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه في غار ثور إذ بالمشركين يصلون إلي فم الغار ، فيخاف أبو بكر خوفًا شديدًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى الدعوة ، ويقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا نبي الله لو أن أحدهم طأطأ بصره رآنا .. إن قُتلتُ فإنما أنا رجل واحد ، وإن قُتلتَ أنت هلكت الأمة ، ليفاجأ بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتأثر بهذه المخاوف ، بل كان هادئ النفس ، رابط الجأش ، على ثقة مطلقة بالله عز وجل ، وبدا ذلك واضحًا من إجابته على ما أثاره أبو بكر من مخاوف : اسكت يا أبا بكر ، اثنان الله ثالثهما .. لا تحزن إن الله معنا ([2]) .
طمأنينة القلب :
من ثمار الإيمان العظيمة تلك الطمأنينة والسكينة التي يسكبها في القلب ، فتجده ساكنًا عند جريان الأحداث سكون الواثق بالله ، المطمئن به – سبحانه – لذلك عندما ذهب عمار بن ياسر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره بأنه تحت وطأة التعذيب والإيذاء أُكره على النيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر آلهة الكفار بخير ، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه سأله : « فكيف تجد قلبك ؟ » ، فقال عمار : أجد قلبي مطمئنًا بالإيمان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فإن عادوا فعد » ([3]).
.. وعندما أسرت الروم عبد الله بن حذافة السهمي فقال له الطاغية : تنصَّر وإلا ألقيتك في البقرة ( وعاء من نحاس ) ، قال : ما أفعل .. فدعا بالبقرة النحاس فمُلئت زيتًا ، وأُغليت ، ودعا رجلًا من أسرى المسلمين فعُرض عليه النصرانية ، فأبى ، فألقاه في البقرة فإذا عظامه تلوح ، وقال لعبد الله : تنصَّر وإلا ألقيتك ، قال : ما أفعل ، فأمر به أن يُلقى في البقرة فبكى ، فقالوا : قد جزع ، قد بكى . قال : ردوه ، فقال عبد الله : لا ترى أني بكيت جزعًا مما تريد أن تصنع بي ولكني بكيت حيث ليس لي إلا نفس واحدة يُفعل بها هذا في الله ، كنت أحب أن يكون لي من الأنفس عدد كل شعرة فيَّ ، ثم تُسلَّط عليَّ فتفعل بي هذا ، قال : فأعجب منه ، وأحب أن يطلقه ، فقال : قبِّل رأسي وأطلقك ، قال : ما أفعل ، قال : قبِّل رأسي وأطلقك وأطلق معك ثمانين من المسلمين ، قال : أما هذه فنعم ، فقبل رأسه وأطلقه وأطلق معه ثمانين من المسلمين ، فلما قدِموا على عمر بن الخطاب قام إليه عمر فقبَّل رأسه ، قال : فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمازحون عبد الله فيقولون : قبلت رأس علج ، فيقول لهم : أُطلِق بتلك القبلة ثمانون من المسلمين ([4]) .
( [1] ) رسائل ابن تيمية في السجن .
( [2] ) أخرجه البخاري (3 / 1427، رقم 3707 ) ، والقصة بتمامها في سيرة ابن هشام ، والرحيق المختوم .
( [3] ) أخرجه ابن سعد ( 3 / 1 / 178) ، وأبو نعيم في « الحلية » ( 1 / 140) ، والطبري ( 14 / 182 ) ، وأخرجه الحاكم ( 2 / 357 ) وصححه، ووافقه الذهبي ، والكاندهلوي في حياة الصحابة ( 1/222 ).
( [4] ) أسد الغابة لابن الأثير (1/597 ، 3/11 ، 212 ) ، معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني (11 / 352 رقم 3608) ، تاريخ دمشق – (27 / 359).