الإيمان والحياة

أمة واحدة ونسيج واحد

المتأمل للخطاب القرآني الموجه لأفراد الأمة يجده خطابًا جماعيًّا وليس فرديًّا بمثل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة: 71]، ﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ ﴾ [الحج: 41]، ﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ﴾ [الحج: 78].

ومن أهم دلالات هذا الخطاب الجماعي أننا أمام التكليف الإلهي جماعة واحدة، أو أمة واحدة ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 92].

فالأمة الإسلامية هي الأسرة الكبيرة لكل فرد مسلم فيها، وهي كالجسد الواحد المكون من أجزاء وأعضاء كثيرة لكنها مترابطة ومنسجمة ومتكاملة، ولا يمكن لهذا الجسد أن يتمتع بالحيوية والنشاط والصحة إلا إذا كانت جميع أعضائه كذلك كما قال صلى الله عليه وسلم: « مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» [متفق عليه]

ومما يؤكد هذا المعنى قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [الحجرات: 11]، فالآية تطالبنا ألا نلمز أنفسنا، أي لا نطعن أنفسنا.. ولكن هل من المعقول أن يلمز المرء نفسه ؟!

من المؤكد أن أي عاقل لا يلمز نفسه، ولكن لأن الله عز وجل يُعاملنا على أننا أمة واحدة وجسد واحد؛ كان التوجيه بعدم لمز الآخر، لأننا حين نلمزه فكأننا لمزنا أنفسنا، كاليد الصحيحة عندما تضرب رأس صاحبها فهي بذلك وكأنها تضرب نفسها، لأن أثر الضربة سيطولها .

وعندما حاول حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه إرسال خطاب إلى أهل مكة يُخبرهم فيه بعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على السير إليهم فاتحًا، وتم منع وصول هذا الخطاب إليهم بعد أن أخبر الله عز وجل رسوله به.. نزل القرآن يُعاتب الصحابة جميعًا على هذا الفعل ولا يُعاتبه بمفرده..يُعاتبهم لأنهم جميعًا مشتركون في المسئولية: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الممتحنة: 1 – 3].

معنى ذلك أنه ليس المطلوب من كل مسلم أن يكون صالحًا في نفسه فقط؛ بل لابد وأن يعمل على إصلاح غيره حتى تبقى الأمة في عافية مستمرة؛ ومن ثم تنجح في أداء مهمتها العظيمة ألا وهي تطبيق وتبليغ رسالة الله الأخيرة للبشرية جيلًا بعد جيل .

والناظر إلى تعاليم الإسلام يجدها تدفع المسلم دائما نحو الحركة الجماعية مع إخوانه المسلمين، وترغِّبه في إصلاح وتقويم نفسه وغيره لتستمر الحيوية للأمة، ومن المظاهر العملية التي تؤكد هذا الأمر: الحث الدائم على أداء الصلوات الخمس المكتوبة: جماعة وفي المسجد، أما صلاة الجمعة فهي اجتماع أسبوعي كبير وهي فرض عين على كل مسلم بالغ عاقل، ولمن شاء من النساء، وصلاة العيدين سنة مؤكدة للجميع: رجالًا ونساء، وموسم الحج موسم يضم آلافًا مؤلفة من المسلمين، وكأن اجتماعهم وهم يمثلون أجناسًا شتى وبلادًا شتى بمثابة اجتماع للأمة كلها .. هذا الاجتماع يتكرر كل عام بأفراد – في الغالب – جدد .

ونجد كذلك تفضيل الإسلام للأعمال ذات النفع المتعدي للآخرين على التطوع بالقربات الفردية: كالسعي على الأرملة والمسكين، وعيادة المريض، وقضاء حوائج الناس، ونجدة الملهوف والصلح بين المتخاصمين .

ومن مفاخر الإسلام ترغيبه الشديد في أداء واجب النصيحة بين المسلمين، ولك أن تتأكد من ذلك عندما تقرأ قوله صلى الله عليه وسلم: « الدين النصيحة » [رواه مسلم] وكأن مدار الدين على النصيحة.

ولا نغفل أيضًا مطالبة الدين لأبنائه بالقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واعتبار تركه نذير شؤم على الأمة، ويكفيك في هذا قوله صلى الله عليه وسلم: « والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم» [رواه الترمذي وحسّنه]

كل ذلك وغيره يُشكل منظومة جماعية من شأنها أن تجعل الأمة مترابطة متعافية، ومن ثَمَّ تستمر في أداء وظيفتها العظيمة وواجبها الخطير تجاه البشرية جمعاء بدلالتها على الله، وتبليغ رسالته لها لإنقاذها من الهلاك.

إن مشروع الأمة الدائم – بعد التطبيق – هو البلاغ والشهادة على الناس في كل زمان ومكان، وهذا يستدعي استمرار حيويتها وقوتها، ويستدعي كذلك توزيع الأدوار والمهام داخل الأمة، فطائفة تتحرك للجهاد والبلاغ، وطائفة تقوم بتجهيزها وإعدادها فكريًّا وإيمانيًّا، ونفسيًّا وجسديًّا.. يقول تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: 122].