الكاتب: الدكتور سلمان العودة
مَن يعيش وسط هذا المجتمع يحس بحجم المشكلات التي تعكِّر صفوه، وتربك علاقاته الذاتية،وعلاقاته الخارجية،فبين الآباء والأبناء،والأزواج، والشركاء في العمل، والزملاء في المؤسسة،والجيران،والقرابة، ألوان من التوتر
، بعضها طبيعي مألوف، وبعضها غريب من إفراز المتغيرات، والملحوظ أن حجمها في ازدياد وتفاقم، وهي تتجه غالبًا إلي التعقيد وتعسُّر الحلول. وفي هذا السياق يبرز دور المصلح الذي همه تقريب وجهات النظر، وحفظ التوازن بين الفئات والأفراد.
فمتي توفر هؤلاء المصلحون، وصحَّت لديهم النية في إرادة الإصلاح كانوا أعظم أسباب الحل، وأعظم ضمانات الديمومة المميزة في مجتمع إسلامي.
وفي هذا يقول سبحانه:( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) {النساء:35}، فوعد الله سبحانه بالتوفيق متي توفرت إرادة الإصلاح.وبعض الجهات الاستشارية -فردية أو مؤسسية أو إعلامية – قد يشوب إرادتها في الإصلاح شأن آخر، أو لا يكون لديها إرادة صادقة، فتزيد الداء عِلَّة، والطين بِلَّة.
وعلي صعيد المتخالفين الذين هم أطراف المشكلة، فإن أعظم ما يحول دون الحل، هو الاعتقاد الجازم لدي كل طرف بصوابية موقفة، وسلامة سلوكه، وأنه المستهدف عن قصدٍ بالإساءة والعدوان، وهذا أثر عن سيطرة نزعة الــ”أنا”في النفوس.
ولقد جربت السعي بين أقارب متهاجرين، فوجدت الطرف الأول يسرد عليك تاريخًا طويلًا من المعاناة، امتد لخمس سنوات، كان خلالها نموذج الصبر والتحمل والتجمل والتسامح، حتى وصل الحال إلي ما لا يصبر عليه، وتعدي الأمر حدوده، ولم يعد في قوس الصبر منزع، واتق غضبة الحليم!!
فإذا انتقلت إلي الطرف الآخر وجدت الأمر ذاته، والشكوى والمعاناة والصبر والتجاوز الذي كان مضرب المثل، ولكن الآخر كان لا يقدِّر هذا ولا يكترث له!!
والمؤلم أنك تجد حين يتحدث الطرفان أن اللهجة صادقة، والحديث جدِّ، لا هزل فيه ولاتمثيل، بل هو من صميم النفس، وسويداء القلب، إنه حديث اللسان، تتواطأ معه ملامح الوجه وقسماته، وتؤكده الأيمان المغلَّظة، والحقائق الدامغة، والسجلَّات والوثائق، والشهود العدول، واسأل فلانًا وفلانًا، فعندهم الخبر اليقين.
وما أضيع الحقيقة والإصلاح هنا..
وكل من الزوجين حين يتحدث عن لُبِّ المشكلة، يضع إبهامه علي طرف الميزان، وقد يسجِّل اعترافات خفية علي نفسه هنا وهناك…
صحيح أنني… ولكن… ويختم حديثه بأنه وإن كان يتحدث عن مشكلة هو طرف فيها، إلا أنه يقول بكل ثقة:(حقيقةً أنا طيِّب بالمرَّة!!).لكن الطرف الآخر لا يقدِّر هذه الطيبة، ولا يحسن التعامل معها، بل يستغلها.
وهكذا تبدوا (الأنانية) المترسخة التي تستعصي علي الكشف، فهي مثل الفيروس المتخفي، التي لا تقدر أحدث المجاهر وأقواها علي ملاحقته وتشخيصه، تتلبس الإنسان وتحكم تصرفاته، من دون أن يدرك أو يلحظ تأثيرها البليغ علي أحكامه وقراراته وسياقات حديثه وتحديد مواقفه.
إن هذه الـــ”أنا” الطاغية هي حجَّة إبليس حين صنع المعاندة والرفض مع آدم، بل مع رب آدم، وقال:(قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) {ص:76}، وهي لغة فرعون حين قال:(أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ) {الزخرف:52}، وهي ضلالة قارون حين قال:(قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) {القصص:78}، وهي شر متسلط علي نفس الإنسان ما لم يتفطن لها، ويحذر فتكها، ويضعها في حجمها السليم، ولذا كان النبي صلي الله عليه وسلم يقول في صدر حديثه:(وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا)[i] وسأله رجل دعاء يدعو به فعلمه:(الَّلَهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي، وَأَعِذْنِي مِنْ شَرِّ نَفْسِي) .[ii](وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون).
إنك لو تأملت تصرفات كثيرين ممن حولك ومواقفهم، لوجدت الــ”أنا” تُملِي والفرد يكتب، وقد ركبته وذلَّلَتْهُ، وربما كان حديثه عن الإيثار ونكران الذات، ولكن هذه الــ”أنا” المتسلطة تأبي أن إلا أن تطل من بين الحروف والكلمات …حتى لدي أهل الزهد والفضيلة.
وإن منهم لمن يرائي حتى بعد موته، فيسرُّه أنه سيتحدث الناس عن شهود جنازته وأنه جمٌّ غفير، وخلق كثير!!
وكم من مديحٍ صِيغَ في قالَبِ الذم، وتواضعٍ معناه الكبرياء.
ومسالك النفس هنا أدق وألطف من أن يحصيَها عدُّ، أو يدركها ذكاء.
وليس الإنسان بقادرٍ علي تجاوز كل مؤثراتها، بل إن مؤثراتها ما هو قدر مطلوب محبوب، وقد قال الخليل عليه السلام:(وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) {الشعراء:84}.
وفي صحيح مسلم عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال:قيل لرسول الله صلي الله عليه وسلم: أرأيتَ الرجلَ يعملُ العملَ من الخير ويحمدُهُ الناسُ عليه؟ قال:” تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَي المُؤْمِنِ”.
وفي صحيح مسلم أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه, أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال:” إِذَا مَاتَ الإِنسَانُ انقَطَعَ عَمَلُهُ إلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ:إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ”.
فهي كسائر الطبائع المخلوقة، أصلها لا بد منه،والزيادة تحتاج إلي ضبط ومراقبة، والناس فيها درجات عند الله.
فالشهوة الجنسية مثلًا لابد منها للحياة، لكن احتدامها وتجاوزها للحد الضابط يفضي إلي الفتنة والبوار.
ولو سعي المرء إلي مراقبة نفسه، واكتشاف لعبة الــ”أنا” في داخلها لأراح واستراح، وكان أطيب الثمار التي يجدها(الأصناف) من نفسه حين يضع ذاته موضع الآخرين.
وإذا أردت أن تأخذ بنصيبك من هذه الذكري، فتأمل حديثك في يوم وليلة، واحسب كم تجري كلمة”أنا” علي لسانك!
إنها أكثر الكلمات تردُّدًا في أفواه الخلق بلا منازع!
اللهم إنَّا نعوذ بك من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شُحَّ أنفسنا، وبصِّرنا بمواطن الضعف فينا، ووفقنا لاستثمار قدراتنا، يا أرحم الراحمين.
[i] أخرجه أبو داود وابن ماجة والترمذي من حديث ابن مسعود
[ii] أخرجه الترمذي والبيهقي من حديث عمران ابن حصين رضي الله عنه