مع المتدبرين

الصلة المتينة الدائمة بين الدين والمدنية والمجتمع

الكاتب: أبو الحسن الندوي

( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة : 3]

إن الدين إذا جُرِّد عن المدنية – وقد جُرِّد كثيرًا في التاريخ ، وتكررت هذه التجربة في فترات كثيرة – كان دينًا ولا حضارة ، كان دينًا ولا اجتماع ، كان دينًا ولا حياة، فهو كطائر مقصوص الجناح منتوف الريش ، لا يستطيع أن يطير ويحلق في الأجواء ، إنه طائر يرفرف ويضطرب ، فهو أشبه ببلبل في قفص من ذهب، وإن كان بلبلًا غريدًا أو عندليبًا ، ساجعًا مترنمًا .

أما الدين الحقيقي فهو الدين الذي يطير بجناحيه في أجواء من المعاني وفي أجواء من الأخلاق والمعاملات والسياسة المدنية ، وهو يسبك الحياة سبكًا مطابقًا لعقيدته ولِما يدين به ، ظهر الإسلام فأنتج حضارة كاملة بحذافيرها ، حضارة زاهية زاهرة ، حضارة حكيمة عادلة ، حضارة مؤسسة على توحيد الله تبارك وتعالى، والإيمان به ، وعلى ذكر الله تعالى ، واستحضار قدرته ، واستحضار الآخرة والإيمان بأن الآخرة خير من الأولى، مؤسسة على العدل الاجتماعي ، وعلى الاحترام للإنسانية والرحمة بها ، وعلى الجمع بين الواجبات والحقوق في آن واحد ، والأخذ والعطاء ، والإفادة والاستفادة في حين واحد ، وعلى الاعتراف بقيمة الإنسان أيًّا كان ، وأينما كان .

الحضارة قامت على أساس العقيدة ، وعلى أساس التربية الإلهية ، والنصوص القرآنية السماوية ، وعلى أساس السيرة النبوية ، وأسوة الصحابة رضي الله عنهم ، فكان أزهى حضارة وأفضل حضارة جربها الإنسان .

ظهرت هذه الحضارة في الحجاز أولًا في مدينة الرسول ، وفي مهجره صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم خرجت من حدود المدينة وغزت العالم كله ، وما دخلت إلى بلد من البلاد إلا وخضع لها أهله طواعية لا كراهية ، وتغلغلت في أحشاء البلاد أو المجتمع الذي فتحته . وتعلمون أن أمة إذا فُتحت عنوة بحد السيف فإنها تبغض الفاتحين ، هذه تجربة التاريخ المتصلة المتكررة ، ولكن الحضارة الإسلامية وقعت من قلوب المواطنين موقع الحبيب ، وقبلتها البلاد وضمتها إلى صدرها ، لأنها كانت حضارة طبيعية عادلة عاقلة ، مؤسسة على مبدأ المساواة الإنسانية ، ومبدأ الرحمة بها ، وإخراج الناس من حكم العباد إلى حكم الله تبارك وتعالى ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

فكل دين يُجرد من الحضارة: دين صائر إلى الانقراض ، ومصيره الزوال السريع . وكل دين يرضى أهله بهذا الموقف الضعيف المتخاذل ، فيرضون من الدين بالعقيدة ، ولا يلحون على مدنية خاصة هي نتاج هذا الدين ، ويقتبسون أو يستوردون مدنية أخرى هي وليدة بيئة أخرى ، ونتيجة عوامل وأحداث مرت بها أمة خاصة، أو بلد خاص : فإنهم يفقدون مع الأيام ومع تيار الزمان شخصيتهم ، ويفقد الدين الذي دانوا به السيطرة على نفوسهم وعقولهم ، ويكونون صورة صادقة أو نسخة مطبوعة أمينة للأمة التي تطفلوا على مائدتها ، واقتبسوا منها الحضارة ونمط الحياة ، وهذا ما نتخوفه اليوم على العالم الإسلامي الذي يقتبس من الغرب مدنيته ، وأساليب حياته.