الكاتب: ابن القيم
قال الله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ ﴾ [يونس : 57]. وقال: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الإسراء : 82]. فجماع أمراض القلب هي أمراض الشبهات والشهوات .
والقرآن شفاء للنوعين . ففيه من البينات والبراهين القطعية ما يبين الحق من الباطل، فتزول أمراض الشبه المفسدة للعلم والتصور والإدراك، بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه ، وليس تحت أديم السماء كتاب متضمن للبراهين والآيات على المطالب العالية : من التوحيد ، وإثبات الصفات ، وإثبات المعاد ، والنبوات ، ورد النحل الباطلة والآراء الفاسدة مثل القرآن ؛ فإنه كفيل بذلك كله ، متضمن له على أتم الوجوه وأحسنها وأقربها إلى العقول وأفصحها بيانا ، فهو الشفاء على الحقيقة من أدواء الشبه والشكوك ، ولكن ذلك موقوف على فهمه ومعرفة المراد منه ، فمن رزقه الله تعالى ذلك أبصر الحق والباطل عيانا بقلبه كما يرى الليل والنهار …
أما شفاؤه لمرض الشهوات فذلك بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب ، والتزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة ، والأمثال ، والقصص التي فيها أنواع العبر والاستبصار.
فالقرآن مزيل للأمراض الموجهة للإرادات الفاسدة ، فيصلح القلب فتصلح إرادته ويعود إلى فطرته التي فُطِر عليها فتصلح أفعاله الاختيارية الكسبية ، كما يعود البدن بصحته وصلاحه إلى الحال الطبيعي فيصير بحيث لا يقبل إلا الحق ، كما أن الطفل لا يقبل إلا اللبن ، فيتغذى القلب من الإيمان والقرآن بما يزكيه ويقويه ويؤيده ويفرحه ويسره وينشطه ويثبت ملكه كما يتغذى البدن بما ينميه ويقويه.
وكل من القلب والبدن محتاج إلى أن يترقى فينمو ويزيد حتى يكمل ويصلح ، فكما أن البدن محتاج إلى أن يزكو بالأغدية المصلحة له والحمية عما يضره فلا ينمو إلا بإعطائه ما ينفعه ومنع ما يضره ، فكذلك القلب لا يزكو ولا ينمو ولا يتم صلاحه إلا بذلك ، ولا سبيل له إلى الوصول إلى ذلك إلا من القرآن ، وإن وصل إلى شيء منه من غيره فهو نزر يسير لا يحصل له به تمام المقصود.
إغاثة اللهفان (1 / 46)