يحكي أحد الأصدقاء أنه في يوم من الأيام استقل سيارة (أجرة)، وفي الطريق بدأ يتجاذب أطراف الحديث مع سائقها الشاب، وتطرق حديثه معه عن الصلاة ثم سأله: هل تواظب على أداء الصلاة؟! فكانت إجابته بالنفي، وما إن بدأ صاحبنا يحدثه عن الله عز وجل وعن نعمه المتوالية علينا وأن شكر هذه النعم يستوجب طاعته و…
إذا بالسائق يقاطعه بحديث عظيم عن الله عز وجل ونعمه السابغة، وقيوميته، وحفظه، وأنه لولا الله ما أبصر أو سمع أو تكلم أو تحرك..، واستمر السائق في حديثه عن الله حتى وصل صاحبنا إلى المكان الذي يريده، وهبط من السيارة وهو يسأل نفسه: إن كان هذا الرجل يعرف عن الله عز وجل كل هذه المعرفة فلماذا لم ينعكس أثر هذه المعرفة على سلوكه فيطيع ربه ويحافظ على أداء الصلاة؟!
الإجابة عن هذا السؤال تستدعي التعرف على الفارق بين العقل والقلب..
مركز الإرادة:
لو كان العقل هو الذي يحرك الإنسان، لكانت المعرفة العقلية وحدها تكفي كدافع للسلوك إلا أن الأمر ليس كذلك، فمع أهمية المعرفة وضرورتها كبوابة أساسية لتحقيق العبودية ومن ثم الاستقامة؛ إلا أنها لا تكفي لتغيير السلوك.. لماذا؟!
لأن الذي يصدر الأوامر بالحركة الإرادية داخل الإنسان هو (القلب) وليس (العقل).
فالقلب يعد بمثابة مركز الإرادة واتخاذ القرار، ومنه تنطلق الأوامر بالأفعال الإرادية وما على الجميع إلا التنفيذ.. قال صلى الله عليه وسلم: «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله إلا وهي القلب»[1] .
.. هذا القلب تتجاذبه قوتان: «قوة الهوى» وما تميل إليه النفس وتشتهي، وقوة «الإيمان» (أو التصديق والاطمئنان) بما في العقل من أفكار وقناعات، والأقوى منهما وقت اتخاذ القرار هو الذي يستولي على الإرادة، ويوجه القرار لصالحه.
فعندما يسمع المسلم أذان الفجر ويريد أن ينهض من نومه للصلاة فإن صراعًا ينشب داخله، بين إيمانه بأهمية ضرورة القيام لصلاة الفجر وبين هوى نفسه وحبها للراحة والنوم وعدم التعرض للمشقة، فإن استيقظ فإنما أيقظه إيمانه الذي كان أقوى من الهوى في هذه اللحظة، وإن نام فإنما أنامه هواه الذي كان أقوى من إيمانه في هذه اللحظة.
وعندما تقع عين المسلم على وجه امرأة أجنبية عنه، فعليه أن يغض بصره، فإن لم يفعل، فذلك معناه أن هوى نفسه في إطلاق البصر والنظر إلى المرأة في هذه اللحظة كان أقوى من إيمانه بالله، وضرورة طاعة أوامره بغض البصر.
* * فالإيمان هو الدافع للسلوك الإيجابي “وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ” [الحج: 32].
* * والهوى هو الدافع للسلوك السلبي “فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ” [القصص: 50].
معنى ذلك أنه إن لم يحدث للمعارف والقناعات الموجودة بالعقل اطمئنان وتصديق قلبي بالقدر الذي يقاوم الهوى المضاد لهذه القناعات وينتصر عليه؛ فإن هذه القناعات لن تترجم إلى سلوك عملي، ومن ثم يصبح كلام المرء وقناعاته في جانب، وسلوكه في جانب آخر.
.. من هنا تظهر أهمية التربية الإيمانية؛ فلئن كانت التربية المعرفية تهدف إلى إنماء العقل بالعلم النافع الراسخ ألا وهو العلم بالله عز وجل، فإن تربية القلب الصحيحة تهدف إلى: تمكين الإيمان بهذه المعرفة وترسيخها فيه حتى تهيمن عليه، وتقهر الهوى، فيسهل على المرء القيام بأعمال العبودية بصورها المختلفة.
.. معنى ذلك أن تغيير السلوك تغييرًا حقيقيًا إيجابيًا لابد أن ينطلق من إصلاح القلب بالإيمان، وعندما نشاهد تغييرًا سلبيًا في السلوك فإن ذلك يعكس تمكن الهوى من القلب وضعف الإيمان فيه.
عندما يضعف الإيمان:
لعل هذا الحديث عن الإيمان وعلاقته بالسلوك يفسر لنا ظاهرة ابتعاد الفعل عن القول، والعمل عن العلم.
فكلما ضعف الإيمان تمكن الهوى؛ لأن مساحة القلب واحدة؛ ليترتب على ذلك آثار سلبية خطيرة تزيد وتنقص بحسب درجة ضعف الإيمان.
.. فمن آثار ضعف الإيمان: أنك قد تجد شخصا كثير الحديث عن القيم، والمثل، والأخلاق، لكنه يمارس عكس ما يتحدث عنه، وفي بعض الأحيان تجده وقد اعتراه الضيق من حاله وواقعه لكنه لا يستطيع تغييره لأن هواه قد سيطر على إرادته واستولى عليها.
ومنها كذلك: عدم الحزن على فوات الطاعة، أو الوقوع في المعصية..
يقول عبد الله بن مسعود: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا[2] (أي: نحاه بيده أو دفعه).
الإيمان يصنع المعجزات:
وفي المقابل.. كلما قوى الإيمان تحسن السلوك بشكل تلقائي، واقتربت المسافة بين القول والفعل، وكيف لا والإيمان الحي يولد دومًا طاقة، وقوة دافعة للقيام بأعمال البر المختلفة حسبما يقتضيه الوقت والظروف.
.. كلما ازداد الإيمان ودخل نوره القلب، انفتح القلب وانشرح ودبت الحياة فيه، وشعر صاحبه بالسكينة والطمأنينة، وزاد انتباهه ويقظته، وكلما استيقظ القلب من غفلته زاد تشميره للسعي نحو الآخرة، وقل اهتمامه بالدنيا ورغبته فيها، واشتدت رغبته فيما عند الله،
مستهدف التربية الإيمانية:
فالهدف القريب الذي ينبغي أن تحققه التربية الإيمانية هو زيادة الإيمان في القلب حتى يعلو على الهوى هذا هو الهدف القريب الذي إن تحقق فعلينا ألا نقف عنده ونكتفي به، بل علينا أن نسعى لتحقيق الهدف البعيد وهو تمكين وهيمنة الإيمان على القلب حتى تتحرر إرادته ويصبح قلبًا سليمًا يستقبل الأحداث ويتعامل مع مستجدات الحياة بدوافع إيمانية “وَمَن يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ” [التغابن: 11]، فكل ما يصيبه حينئذ يجد له تفسيرًا «ومعاملة إيمانية» كما قال صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له»[3].
إن التربية الإيمانية الصحيحة يجب أن تصل بالمرء إلى تنوير قلبه، حتى يصبح قلبًا أبيض، فتستنير بصيرته، وتعلو حساسيته تجاه كل ما يرضى الله عز وجل فيتسابق إلى فعله، وإلى كل ما يبغضه فيسارع إلى تركه.
.. التربية الإيمانية عليها أن تُخِضع مشاعر الإنسان لله عز وجل كما قال صلى الله عليه وسلم: «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان»[4].
وأما أقصى غاية للتربية الإيمانية فهي الوصول إلى درجة الإحسان التي ذكرت في حديث جبريل المشهور: «أن تعبد الله كأنك تراه»[5].
[1] متفق عليه.
[2] رواه البخاري (6308).
[3] رواه مسلم.
[4] صحيح، رواه أبو داود وصححه الألباني في صحيح الجامع (5965).
[5] رواه مسلم.