مع المتدبرين

ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا

{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران : 154]

إن استغراق أي جماعة -تعاني من خوف ومن اضطراب شديدين- في النوم ووصولهم إلى أمن وسكينة روحية وقلبية وإلى طمأنينة كاملة إنما هو لطف من الله تعالى وفضل منه لهذه الجماعة. وهو دليل ثقة من الجماعة وتسليم وتفويض واعتماد وتوكل منها على الله تعالى. وفي معركة بدر وأحد كان ظهور مثل هذا الاطمئنان وهذا الوعد الإلهي، ووقوع هذه السكينة الرحمانية بنسبة الالتزام بالدين وبنسبة توجه القلوب إلى محرابها الحقيقي. وهذا وارد في كل وضع ولكل توجه صادق.

أجل! إن الدين هو روح الحياة، وإعلاء كلمة الله أقدس الوظائف، وصرف الحياة وإفناؤها في هذا السبيل، هو السبيل لطرق باب الحياة الأبدية والوجود الأبدي. وبمقياس وضع رضا الله تعالى كغاية الغايات ستهب في المقابل عنايته ورعايته وحمايته. وهذه العناية والرعاية معروضة في كل زمان ومكان وبنسبة مقاربة للعناية المذكورة للصحابة كلما توفرت شروط هذه العناية وظروفها وأسبابها. ومن كان من المؤمنين في مثل هذا المستوى من الإيمان والتسليم والتوكل يستطيع التصدي حتى لنيران نمرود بصدر مفتوح وبقلب مطمئن، بل ربما قلب تلك النيران بردًا وسلامًا.

وفي مقابل الحياة الهادئة المطمئنة لهؤلاء، هناك زمرة تشارك هؤلاء الظروف نفسها، غير أنها لا تتنفس الأجواء نفسها. لذا نراها منكبة على متطلبات أهواء أنفسها، فتنعكس الشبهات الموجودة في مشاعرهم وأفكارهم لترسم لهم سبل حياة مليئة بالتناقضات المخجلة. لذا لا يرى هؤلاء وجه الراحة والاطمئنان أبدا، بل سيعيشون حالة تذبذب، لكون رؤوسهم مملوءة بالأفكار الجاهلية، وحتى لو آمن هؤلاء فإن أفكارهم حول الاطمئنان إلى الله تعالى ستكون مشوبة بسوء الظن. والآية الكريمة ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ توضح حالة اليأس العكرة في مشاعر هؤلاء وما يعانونه من تردد وإحباط.