من الصفات التي كانت واضحة في رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبها ويحب أن يراها في أصحابه – رضوان الله عليهم – قوة الإرادة، بل لقد كان صلى الله عليه وسلم يُفاضل بين أصحابه على قدر ما يرى فيهم من قوة الإرادة.
فاسمع إليه صلى الله عليه وسلم وهو يبشَّر بأعظم مهمة في حياته كلها، وهي الرسالة والاصطفاء من الله له، يقول له ورقة بن نوفل: والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء به موسى، وإن قومك سيكذبونك، ويؤذونك، ويخرجونك، ويقاتلونك.. فيتعجب النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: أو مخرجي هم؟! فيقول له ورقة بن نوفل : نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عاداه الناس وحاربوه..
وأمام هذه الملامح والعالم لطريق دعوته تراه صلى الله عليه وسلم في قوة إرادة تعكس الإيمان بالمبدأ، والإصرار على العمل المتواصل يقول لشريكة جهاده السيدة خديجة – رضوان الله عليها -: ذهب عهد النوم يا خديجة!!!
وما أروعها من كلمات خرجت من الفم الطاهر وهو يواجه أئمة الكفر في قريش وهم يحاولون منعه عن الدعوة إلى الحق باستخدام عمه أبي طالب، وأمام هدر الأصوات بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد، يقول صلى الله عليه وسلم: يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهِلك دونه ما تركته.. وهكذا قوة في الحق لا تعرف الوهن والضعف، ووضوح رؤية لا تلين بصاحبها ولا تستكين.
وهل سمعت بموقفه صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين، وهو في الستين من عمره.. وقد تولى الكثير من الصحابة عنه في شعب الجبال من هول المباغتة التي صنعتها لهم قبيلتا هوازن وثقيف.. يمسك صلى الله عليه وسلم بسيفه في قوة جبارة يلوح به في السماء ويقول: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب.. وبسبب هذا النداء الصاخب عادت مجريات المعركة إلى وضعها الصحيح لتكون الغلبة لقوة الحق الذي جاء به سيد الخلق.
ولقد كان صلى الله عليه وسلم خبيرًا بالرجال، يبحث عن أصحاب القدرات الفذة، فيعدهم للمهام الكبرى.. انظر إلى هذه الواقعة التي يحكيها الصحابي الجليل زيد بن ثابت وهو من كتاب الوحي المتميزين، يقول: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلم له كتاب يهود [أي: لغة يهود] قال: إني والله ما آمن يهود على كتاب. قال زيد: فما مر بي نصف شهر حتى تعلمته له.. فلما تعلمته كان إذا كتب لإلى يهود كتبت له، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم..
في نصف شهر يتعلم لغة قوم قراءة وكتابة.. أي إرادة.. وأي قوة.. وأي إصرار.. هذا الذي يحرك همة زيد!!
إن صدق التوجه وعزيمة الإيمان تفجر الطاقات لتسمو بصاحبها نحو المعالي.
وبصوت عالٍ مدو يهز أعماق النفس ويقتل فيها الوهن والضعف يقول ربنا تبارك وتعالى {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23].. وتمتد أنظار قارئ القرآن إلى آفاق بعيدة وهو يتأمل كلمة «رجال» فليس كل المؤمنين – على علو شأن الإيمان – رجالًا، ولكن من كان له في ساحات العمل إرادة قوية، وانطلاقات تقطع حاجز الضعف البشري لترقى في سلم الكمال والخلود الأبدي.. لذلك قدر النبي صلى الله عليه وسلم ثلة من رواد الصحابة فوقف على قبر مصعب بن عمير وقبر أنس بن النضر ليقرأ عليه هذه الآية.
ولا يحتاج الناظر في كتاب الله إلى تفسير المفسرين لقوله تعالى {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40، 41].
فمن كانت له قدرة وقوة في أن يقف أمام أهواء نفسه ورغباتها يأخذ بناصيتها إلى ربها.. بلا تبديل أو تغيير فقد حقق لها انتصارًا كبيرًا وسموًا رفيعًا في معارج القبول.
ويستوقفنا ربنا تبارك وتعالى أمام التوجيه التربوي لنبي الله «يحيى» يقول له: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12]. وأحسب أننا المعنيون بهذا الأمر.. فلو كان خاصًا بنبي الله يحيى عليه السلام ما احتاج إلى أن يسجل في الكتاب الخالد الذي أمرنا بالنظر فيه وتدبره المرة تلو الأخرى.
لذلك وضح لنا ربنا عز وجل أسباب غضبه على بني إسرائيل وسقوطهم في مهاوي الخسران، فيقول: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة: 63، 64]، لم يأخذوا ما آتاهم الله بقوة فكان منهم ما عرضهم للعن الله لهم في الدنيا والآخرة.
ولتحقيق قوة الإرادة فينا لابد من وضوح الرؤية، فعلى قدر ذلك تنشأ في النفس همة تساعد على الحركة.. لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكِّر الصحابة في مواقف الجد والبذل بهدفهم في الحياة، فتراه قبل المعارك يحضهم فيقول: «قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض..»، واسمع إليه صلى الله عليه وسلم إذا دخل الثلث الليل الآخر يقول: «جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة..»، وهكذا تذكير بالهدف، وإجلاء للرؤية حتى تتحقق في النفس البواعث على العمل..
لذا كان السبيل الأول لتكوين إرادة وقوة هو تقوية عناصر الإيمان بالله، ومعايشة هذا الإيمان حتى يكون حقيقة تنطلق من المعرفة إلى السلوك يجسد وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم «اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
ولا شك أن التدريب العملي في مقاومة أهواء النفس ومخالفتها، وإلزامها طاعة الله لزوم الحق، كل ذلك يساعد على تقوية الإرادة، فالأجر على قدر المشقة، ومن يطالع دواوين السنةيرى الكم الكبير من الآثار التي تقوي إرادة المسلم، فالعبادات اليومية، وتقوية ذلك بنظام وانتظام يقوي الإرادة، ولا تخفى علينا – كذلك – آثار الإكثار من ذكر الله تعالى فهو مدد روحي ينير القلب والعقل ويمد صاحبها بوابل إلى الخير يثبته إذا أحاطت به الشدائد، فالله تعالى يوصي جنوده بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45].
عبد الله العربي