جاء في شمائل الترمذي، في وصفه صلى الله عليه وسلم أنه كان متواصل الأحزان..
وهذا الوصف له صلى الله عليه وسلم، وهذه الشميلة المذكورة عنه تدعونا للتفكر في سببها، ولماذا ذكرها الواصف له صلى الله عليه وسلم..
بالتأكيد لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يحزن، لكن طول همه بأمته، وتفكيره في هدايتها إلى ربها، كل ذلك وغيره يجعل النبي صلى الله عليه وسلم ينتقل من هم إلى هم، ومن تفكير إلى تفكير..
وهذا ما أيَّده آخر الوصف في ذات الأثر: « كان رسول الله مُتواصِلَ الأحزان، دائمَ الفِكرة، ليست له راحة…»
وطول التفكير في أمر جاد وهام كهذا يجعل صاحبه في تألُّم إذا تألمت أمته، وبكاء إذا توجَّعت، خاصة إذا كان الحال كحالنا الآن، فإنه أدعى للبكاء والهم الطويل..
ولعل النبي صلى الله عليه وسلم كان يحزن لأمته لأن الله أخبره بما سيكون في مستقبلها من تشتت وتشرذم وهوان على الناس.
وكيف لا يتألم وهو صاحب أرق القلوب، وصاحب الحب العظيم لنا ولأمته جمعاء، وليس بكاؤه قبل موته شوقًا إلينا عنا بخافِ.
لم يكن صلى الله عليه وسلم يحزن ويطول حزنه على متاع من متاع الدنيا، ولا على بُهرج خداع، فقد ذكَّرتنا سيرته الطيبة أنه عاب على الأنصار اهتمامهم بالغنائم، وذكَّرهم بما هو أهم من ذلك: هدايتهم إلى ربهم بعد الضلال، وتجمعهم بعد الفرقة، والتآلف بعد العداوة.
فحينما أعطى رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أعطي من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب ولم يكن في الأنصار منها شيء وَجَدَ هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثُرت فيهم القالة، حتى قال قائلهم: لقي رسول الله صلى الله عليه و سلم قومه- أي أهله وأقاربه فأعطاهم العطايا- ، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفَيء الذي أصبت.. قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظامًا في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء. فقال صلى الله عليه وسلم: «فأين أنت من ذلك يا سعد؟». قال: يا رسول الله ما أنا إلا امرؤ من قومي وما أنا من ذلك. قال: «فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة».. فلما اجتمعوا أتاه سعد فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار قال: فأتاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو له أهل ثم قال: «يا معشر الأنصار مقالة بلغتني عنكم ؟ ووجدة وجدتموها في أنفسكم ؟ ألم تكونوا ضلالًّا فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف بين قلوبكم؟».
قالوا: بل الله ورسوله أَمَنُّ وأفضَل قال: « ألا تجيبوني يا معشر الأنصار ؟ ». قالوا: وبماذا نجيبك يا رسول الله، ولله ولرسوله المَنّ والفضل؟ قال: «أما والله لو شئتم لقلتم فلصَدَقتُم ولصُدِّقتُم: أتيتنا مُكذَّبًا فصدقناك، ومخذولًا فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلًا فواسيناك. أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا ؟ تألفت قومًا ليسلموا؟ ووكلتكم إلى إسلامكم؟ .. ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه و سلم في رحالكم ؟ فوالذي نفس محمد بيده إنه لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا لسلكت شعب الأنصار.. اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار».
الشاهد في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكَّرهم بأن الذي حزنوا من أجله لا يستحق الحزن، وأن من هداه الله له وجمع قلبه عليه، وألف بينه وبين إخوانه هو الفائز، وهو الذي يحُزن عليه إن فاتهم.
وإذا نظرنا إلى تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه على هذا المعنى فإن ذلك يُفسر لنا ويبزر أمامنا ذلك الموقف المؤثر منه صلى الله عليه وسلم حين قام الليل يبكي وهو يقرأ قوله تعالى: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [المائدة: 118].
فعن عبد الله ابن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [إبراهيم: 36]، وقال عيسى عليه السلام: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [المائدة: 118].
فرفع يديه وقال: «اللهم أمتي أمتي» وبكى، فقال الله عز وجل: «يا جبريل! اذهب إلى محمد – وربك أعلم- فسله: ما يبكيك؟» فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال – وهو أعلم – فقال الله: «يا جبريل! اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك».
أخي الحبيب – التفِت – فهذا ما كان يحزن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هذا هو الذي كان يجعله متواصل الحزن كما جاء في الرواية.. وهذا ما كان يُربي عليه أصحابه، فهلَّا اعتبرنا.. وهلَّا تعلمنا ذلك عنه صلى الله عليه وسلم.. وهلَّا بنينا بنيانه بعد أن صدَّعه البعد عنه وعن رسالته؟
أسأل الله أن يجعلنا ممن ينتفعون برسائل الله إليهم، وأن يرزقنا حُسن الفهم والعمل، وأن يتقبل منا كل خير منَّ به علينا.. إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.