الحلقة المفقودة:
بعد الحديث عن أهمية الإيمان وثماره، ومراتب الارتقاء الإيماني، يبقى السؤال : هل ما قيل يكفي لبدء الرحلة الإيمانية والسير إلى الله؟
بلا شك أن حُسن التعامل مع القرآن والتفكر فيه، ومداومة قراءته بتدبر وترتيل وصوت حزين، مع العمل – قدر المستطاع – على الاستفادة من القرآن في التفكر في الكون وأحداث الحياة وربطها بالله عز وجل .. بلا شك أن هذه الأعمال القلبية ستقوم – بإذن الله – بزيادة عظيمة وملحوظة للإيمان، فإن صَاحَبها أعمال صالحة فإن الأثر سيكون أشد وأشد شريطة أن يسبق تلك الأعمال تحفيز للمشاعر كما أسلفنا.
ولكن تبقى حلقة مفقودة في هذه المنظومة، ألا وهي الشرارة الأولى والشحنة القوية التي تهز القلب، وتوقظ الإيمان لتأتي بعد ذلك تلك الوسائل فتعمل عملها.
والشحنة القوية التي نحتاجها في البداية لكي توقظنا من سُباتنا وتجعلنا – بإذن الله – نبدأ رحلة الارتقاء الإيماني والسير إلى الله لها طريقتان : إما شُحنة تخويف وترهيب، وإما شُحنة تشويق وترغيب، كما قال بعض السلف : « لا يُخرج الشهوة من القلب إلا خوف مزعج أو شوق مقلق».
هيا بنا نزداد حُبًّا لله وشوقًا إليه:
هناك عدة أسباب تدفعنا لتفضيل طريق التشويق والترغيب في الله عز وجل، لجلب الشرارة الأولى والشحنة القوية الدافعة للعمل.
ومن هذه الأسباب أن الحديث عن الخوف من الله وأسباب استجلابه من تذَكُّر الموت، وعذاب القبر والقيامة والنار، قد احتل مساحات كبيرة في كتابات وأحاديث العلماء والدعاة وغيرهم، ومن ثَمَّ فإن تأثيره – بسبب هذا التكرار – قد لا يأتي بالأثر المطلوب كالطبيب الذي يعتاد رؤية الإصابات والدماء والكسور فيفقد بمرور الوقت تأثره بها.
وعكس ذلك بخصوص طريق المحبة والتشويق إلى الله عز وجل، فالحديث عنها قليل، ولا يتوازن مع الحديث عن الخوف من الله عز وجل.
ومن هذه الأسباب : أن الشحنة الإيمانية والشرارة الأولى الناتجة عن طريق التشويق والترغيب لها صدى طيب في النفس، فمن شأنها أن تجعل المرء يستيقظ من سُباته وهو باسم.. يهرع إلى الله وهو فرِح .. يُسارع في القيام بالعبادات المختلفة، وهو في حالة من الرضا عن الله والشوق إليه والحب له … .
ومنها كذلك أن الغافل يحتاج إلى مَن يُوقظه بحنان ورفق حتى يستوعب تلك اليقظة، أما المُستيقظ فهو يحتاج إلى بعض التخويف حتى لا يُعجب بنفسه، ويغتر بعلمه، فالترغيب يُفضل البدء به مع أمثالي من الغافلين، أما الترهيب فيكون مع العابدين والصالحين.
وليس معنى هذا هو ترك التخويف والترهيب، بل المقصد هو التوازن بينهما والبدء منهما بما يُناسب حالة القلب.
فإن اتفقت معي – أخي – على البدء بشحنة التشويق والترغيب في الله عز وجل، فلتكن إذن شُحنة قوية حتى تظهر الثمرة وتؤدي إلى اليقظة بإذن الله.
مع ملاحظة ضرورة الاستمرار – بعد حدوث اليقظة – في القيام بأعمال القلوب ( التفكر في القرآن وتدبره والاجتهاد في التأثر به، والتفكر في الكون وأحداث الحياة والاعتبار بها وربطها بالله عز وجل ) وكذلك الأعمال الصالحة المؤثرة التي يسبقها تذكير وتحفيز حتى يستمر الارتقاء الإيماني.
أما إذا حدثت اليقظة، ورضي المرء بها واطمأن لها ولم يُتبعها بأعمال الإيمان فسيعود – في الغالب – كما كان قبل اليقظة.
مفتاح الدخول لباب المحبة:
دائمًا ما تكون المعاملة على قدر المعرفة، فمعاملة الله بحب واشتياق ستكون – بإذن الله – نتيجة طبيعية لمعرفة وُدِّه وحُبِّه لنا، ونعمه الكثيرة التي يغمرنا بها ..
وأدعوك – أخي – إلى التعرف على الله الودود – بصورة إجمالية – على أن تجعل عقلك بين مشاعرك، ثم سل نفسك بعدها : هل ازددت رغبة في الله وحُبًّا له؟
أقبل ولا تخف فربك ينتظرك
كان في بلد من البلدان في زمن بني إسرائيل رجل يُدعى ” الكفل “، وكان يفعل ما يُريد، ولا يُبالي بحلال أو حرام، وكان أهل بلدته يعرفون عنه هذا، وإذا ما جاء اسمه على لسان بعضهم لا تجد أحدًا منهم يذكره بخير أبدًا.
وفي ليلة من الليالي، وبعد أن دخل كل واحد بيته، وأغلق بابه، إذا بالكفل يسمع طرقًا على بابه، فقام ليفتح فإذا به يُفاجأ بامرأة يقطر منها الحياء، ويذوب وجهها خجلًا، فسألها عن سر مجيئها فأخبرته أنها تمُر بضائقة مالية شديدة، ولم تجد أمامها أحد سواه لتقترض منه .. وجد الكفل الفرصة سانحة أمامه .. امرأة جاءت إلى داره بمحض إرادتها، وفي سكون الليل، ولا يراها أحد من الناس، فتلطف معها وأدخلها داره، وأخبرها بأنه لا مانع لديه من إقراضها ولكن لديه شرط .. أن تُمكِّنه من نفسها.
ألحت المرأة عليه ألَّا يفعل، فلم يلتفت إلى إلحاحها وتوسلاتها، فوافقت مرغمة وهي تتقطع من داخلها، وعندما اقترب منها وجد فرائصها ترتعد، فسألها عن السبب، فأخبرته بأنها لم تفعل هذا الفعل من قبل، وأنها تخاف الله عز وجل وتخشى عقوبته وغضبه .. هنا توقف الكفل، وابتعد عنها، فقد وقعت تلك الكلمات موقعها في نفسه، ولبث هُنيهة، ثم قال لها : أنت تقولين هذا القول مع أنك مضطرة لذلك، فماذا عليَّ إذن أن أقول ؟! ألست أنا أحق بالخوف من الله منك ؟! ثم تركها تنصرف بعد أن أعطاها ما طلبته من المال.
تركها لتذهب وهو يعيش في لحظات من الذهول .. الألم يعتصره، والندم على ما فعله في حياته يُسيطر عليه، لقد كانت كلمات المرأة عن الله كالزلزال الذي هزَّ كيانه، واستخرج من ذاكرته شريط أحداث ماضيه الأسود، ذكرى أفعال سابقة، نسي فيها الله، ولم يَخَف مقامه سبحانه، وكلما تذكر موقفًا من مواقفه المخزية ازداد ندمه، واشتد ألمه، وعلا بكاؤه.
في هذه الأثناء، وبينما هو في هذه الحالة، حدث أمر لم يكن في الحسبان .. لقد زار الكفل ضيف آخر .. لم يكن ذاك الضيف من بني البشر، لقد زاره ملك الموت ليقبض روحه، وهو في أشد لحظات الندم والتوبة.
.. جاءه ملك الموت ومعه ملائكة الرحمة يزُفُّون إليه بشرى مغفرة الله له ورضاه عنه.
لقد قبِل الله ندمه وعفا عنه، وفوق هذا الجُود لم يتركه ليعيش بعد ذلك فقد يعود إلى سابق عهده من الظلم والطغيان، فقبض روحه في هذا الوقت لتكون النهاية السعيدة.
نعم – أخي – حدث هذا، فربك رؤوف رحيم، يُريد أن يعفو عنَّا جميعًا ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: 27] .. يُريد أن يُدخل الجميع الجنة ﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ﴾ [البقرة : 221] .
.. لا تتعجب أخي مما حدث مع الكفل، فالله عز وجل ينتظر من جميع عباده أي التفاتة صادقة إليه ليُقبل عليهم ويعفو عنهم ويُدخلهم الجنة.
ولكن، هل انتهت قصة الكفل عند ذلك؟
لا، فقد حدث أمر عجيب، قد استيقظ الناس في الصباح وخرجوا من بيوتهم كعادتهم يلتمسون معايشهم وأرزاقهم، فمرَّ بعضهم بجوار بيت الكفل، فلفت نظرهم كلامٌ مكتوب بخط واضح على بابه، فاقتربوا منه ليقرأوه، فعقدت الدهشة ألسنتهم، وفغروا أفواههم، ووقفوا مشدوهين لا يكادون يُصدقون ما يرونه ..
لقد وجدوا عبارة تقول: « إن الله قد غفر للكفل ».
تجمَّع الناس وقرؤوا العبارة وهم غير مُصدقين .. طرقوا الباب فلم يفتح لهم أحد، ففتحوه عُنوَة ليجدوا الكفل قد مات، فازداد عجبهم وحيرتهم، فهرعوا إلى نبيِّهم ليسألوه عن أمر الكفل، فأوحى الله إليه بما حدث، فاشتد بكاء الناس وازداد حُبُّهم لله وتعلقهم برحمته وسارعوا إلى التوبة إليه.
كان من الممكن أن تمر هذه الحادثة ولا يعلم بها أحد، فالناس يموتون ولا يدري أحد بماذا خُتِم لهم، ولكن الرب الودود الذي يُريد أن يُطمئن الجميع ويدفعهم للفرار إليه أنزل هذه الآية لينتفع بها الناس ويتفكروا في مغزاها، وما تدل عليه من سعة رحمة الله، ومدى حُبِّه لعباده، وأنه سبحانه ينتظر منهم أي بادرة صادقة للتوبة، فيُقبل عليهم ويقبلهم ويمحو كل سيء فعلوه.
نعم – أخي – هذا هو ربنا ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء : 27].
ألم تر إلى ربك كيف يُحبُّك؟
إننا جميعًا نتمنى محبة الله عز وجل لنا، ولو تفكَّرنا وتأملنا في طريقة معاملة الله لنا لتأكدنا أنه سبحانه يُريد لنا وللناس جميعًا الخير، وأن محبته لنا سبقت وجودنا، وأن مُراده دخول الجميع جنته ﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ ﴾ [يونس : 25].
وكلما تفكَّرنا في جوانب حُب الله لعباده ازددنا حُبًّا له، وحياء منه سبحانه، وأصبحت أُمنيتنا هي : كيف نُحب الله كما يُحبنا، وكيف نتودد إليه كما يتودد إلينا؟
خلقنا في أحسن تقويم:
الله عز وجل هو الذي خلقنا من العدم، ولم نكن قبل ذلك شيئًا مذكورًا، وقد أوجَدنا سبحانه في أحسن صورة ﴿ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ﴾ [غافر : 64].
كرَّمنا على جميع خلقه، ونفخ فينا من روحه، وأسجد لأبينا ملائكته، وهيأ الكون كله لخدمتنا بلا مقابل، فالأرض تُخرج لنا الطعام، والسماء تُنزل الماء، والشمس تمدنا بالدفء والضياء، والقمر يُعرفنا الأيام والشهور .. الدواب تحملنا، والنحل يمدنا بالعسل، والأنعام تُخرج لنا اللبن، والأزهار تُشعرنا بالبهجة ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [النحل : 10 – 13].
إلهٌ قيُّوم:
الله عز وجل يقوم على شؤون عباده جميعًا، يرعانا بالليل والنهار .. يقبض أرواحنا فننام ونرتاح، ثم يُعيدها لنا فنستيقظ ونستأنف حركتنا في الحياة .. هكذا كل يوم ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [الروم : 23].
يمدنا بمقوِّمات الحياة مع كل طرفة عين .. يمد أجهزة الجسم المختلفة بالقدرة على القيام بوظائفها .. يمد اللسان بالقدرة على الكلام، والعين بالقدرة على الرؤية، والأنف بالقدرة على الشم، والأذن بالقدرة على السمع، واليد بالقدرة على الحركة والبطش، والرجل على المشي وحمل الجسم، والقلب بالقدرة على ضخ الدم حوالي سبعين مرة في الدقيقة الواحدة .. يمد كل خلية في الجسم – كل طرفة عين – بأسباب حياتها ﴿ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْر ﴾ [يونس : 22].
فنحن جميعًا من الله خَلقًا وإيجادًا، وبالله رعاية وإمدادًا، فلا حول ولا قوة إلا به سبحانه ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل : 53].
حليم ستير:
ربنا حليم ستير، يرانا نعصيه مرات ومرات فلا يفضحنا، ولا يهتك سترنا، بل يسترنا ويحلم علينا، ويُمهلنا علَّنا نتوب ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ ﴾ [فاطر : 45].
رب صبور .. يصبر على أذى عباده وكفرهم وجحودهم مع قدرته المطلقة عليهم .. يقول صلى الله عليه وسلم « ليس أحد أصبر على أذى سمعه من الله تعالى، إنهم ليدَّعون له ولدًا، ويجعلون له أندادًا، وهو مع ذلك يُعافيهم ويرزقهم [1].
ربٌ رحيم:
رحمته وسعت كل شيء، حتى العاصين له، المنكرين لوجوده، يُطعمهم ويسقيهم ولا يمنع رزقه عنهم.
.. أنزل في الأرض جزءا من مائة جزء من رحمته يتراحم بها خلقه، واختزن لنا عنده تسعة وتسعين جزءًا لوقت سنكون فيه أحوج ما نكون إلى تلك الرحمات.
قال صلى الله عليه وسلم : « إن ربكم رحيم ؛ من همَّ بحسنة فلم يعملها كُتبت له حسنة، فإن عملها كُتبت عشرًا، إلى سبعمائة، إلى أضعاف كثيرة، ومن همَّ بسيئة ولم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت واحدة، أو يمحوها الله، ولا يهلك على الله إلا هالك »[2].
إلهٌ رؤوف:
ربنا رب رؤوف، حنان .. أحن علينا من آبائنا وأمهاتنا وأزواجنا وأبنائنا .. إذا ابتلانا بمرض فإنه لا يحرمنا معه الأجر .. قال صلى الله عليه وسلم : « ما أحد من المسلمين يصاب ببلاء في جسده إلا أمر الله الحفظة الذين يحفظونه فقال : اكتبوا لعبدي هذا في كل يوم وليلة ما كان يعمله في الصحة من الخير ما دام محبوسًا في وثاقي » [3].
.. نعم –أخي– هذا هو ربنا الرؤوف « إن الله يُنزل المعونة على قدر المؤنة، ويُنزل الصبر على قدر البلاء » [4].
لا يُريدنا أن ندخل النار، فيظل يُخوفنا ويُخوفنا منها، ويُظهرها لنا بصورة بشعة مؤلمة قاسية، حتى نعمل على الهرب منها ﴿ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ﴾ [الزمر : 16].
ويعرض – سبحانه – لنا الجنة بصورة جميلة مبهرة تفوق الوصف، حتى نسعى حثيثًا للوصول إليها ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ﴾ [الإنسان : 20].
لعلهم يرجعون:
مُراده – سبحانه – دخول الجميع الجنة، لكنه لا يقهر أحدًا على الإيمان به، وإلا انتفت الحكمة من خلق الإنسان وتمتعه بحرية الاختيار، ولصار كسائر المخلوقات.
ولأنه سبحانه يُريد لعباده دخول جنته، وهم في غفلة معرضون لذلك فهو يبتليهم بألوان شتى من الابتلاءات حتى يفيقوا من غفلتهم ويعودوا إليه.
فكل ما يَرِد على الإنسان من أشكال المنع كالمرض والنقص في الرزق والأمن فإن الحكمة الأساسية منه هو إخراجه من حالة الغفلة إلى اليقظة، ورجوعه إلى الله .. تأمل معي هذه الآيات التي تؤكد هذا المعنى:
﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم : 41].
﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [السجدة : 21].
﴿ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الأعراف : 168].
﴿ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الأعراف : 174].
﴿ وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الزخرف : 48].
بل إن الهموم التي تهجم على العبد صورة من صور التنبيه وتكفير الذنوب، يقول صلى الله عليه وسلم : « إذا كثرت ذنوب العبد فلم يكن له من العمل ما يكفرها ابتلاه الله بالحزن ليكفرها عنه» [5] .
ربٌ شكور:
ربنا ربٌ شكور .. يشكر عمل عبده – مع قلته – ويعظم له به الأجر ..
.. يقول صلى الله عليه وسلم : « بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق، فأخره فشكر الله له، فغفر له »[6].
ويقول : «كان تاجر يداين الناس، فإذا رأى معسرًا قال لفتيانه: تجاوزوا عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه »[7]
ربٌ غفور :
أتدري – أخي – ما هي دعوة الله التي يدعو عباده إليها؟
إنها المغفرة .. يدعوهم لكي يستغفروه فيغفر لهم، ويستسمحوه فيُسامحهم مهما كانت أخطاؤهم ..
وهو مع غناه المطلق عنهم ينتظرهم ليُلبُّوا دعوته ﴿ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ﴾ [إبراهيم : 10].
﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ﴾ [البقرة : 221].
﴿ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا ﴾ [البقرة : 268].
.. أيُ غفلة نحن فيها ؟!
ربنا العظيم، مالك الملك، الغني الحميد، الذي لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضرُّه معصية العاصين، يستحثنا لتلبية دعوته .. للعفو والصفح والمغفرة.
ينادي على العاصين الذين بارزوه بالمعاصي ﴿ قلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر : 53].
لا يتعاظم لديه ذنب أن يغفره، بل يغفر ولا يُبالي ..
عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « والذي نفسي بيده، لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض، ثم استغفرتم الله لغفر لكم » [8].
ومن هذا الذي تملأ خطاياه ما بين السماء والأرض؟!
لكنه خطاب تطمين وتحفيز للمسارعة إلى نيل المغفرة وانتهاز الفرصة قبل فوات الأوان ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ﴾ [آل عمران : 133].
﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الحديد : 21].
بابه مفتوح للجميع:
الله عز وجل لا يُغلق بابه في وجه سائل .. ينتظر توبة عبده، ويفرح بها أيما فرح، ويُكافئه عليها مكافأة فورية بأن يُبدل سيئاته حسنات، ليبدأ حياته الجديدة برصيد كبير منها ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان : 70].
ينتظر من عبده أية التفاتة صادقة ليُقبل عليه، وأي شعور بالندم على ما مضى منه من تفريط، ورغبة في التوبة إليه، فيغفر له ولا يُبالي.
يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، فإذا تاب عبد من عباده كان –سبحانه– أفرح بتوبته من ذاك الذي تاهت راحلته في الصحراء وعليها كل أسباب حياته.
فقل لي – بربك – لماذا يفرح كل هذا الفرح ؟!
هل يُزيد هذا التائب في خزائن ربك أو ملكه شيئًا؟
هل تنقُص خزائن ربك إذا ظل ذلك العبد عاصيًا ؟
كلا .. فلماذا إذن؟
هل هناك إجابة غير أنه يُحبنا ويُريد لنا الخير ودخول جنته، ويخاف علينا من دخول النار ؟
فأي رب رحيم ودود هو ربنا ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب : 43].
.. جاء في الحديث : « ما من يوم إلا والبحر يستأذن ربه أن يُغرق ابن آدم، والملائكة تستأذن أن تُعجله وتهلكه، والرب يقول : دعوا عبدي، فأنا أعلم به إذ أنشأته من الأرض، إن كان عبدكم فشأنكم به، وإن كان عبدي فمني إلى عبدي، وعزتي وجلالي إن أتاني ليلًا قبلته، وإن أتاني نهارًا قبلته، وإن تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، وإن تقرب مني ذراعًا تقربت باعًا، وإن مشي إليّ هرولت إليه، وإن استغفرني غفرت له، وإن استقالني أقلته، وإن تاب إليّ تُبت عليه.مَن أعظم مني جودًا وأنا الجواد الكريم ؟ عبادي يبيتون يُبارزوني بالعظائم، وأنا أكلؤهم[9] في مضاجعهم، وأحرسهم على فُرُشهم، من أقبَل تَلقَّيته من بعيد، ومن ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد، ومن تصرَّف بحولي وقوتي ألَنْت له الحديد، ومن أراد مُرادي أردت ما يُريد.أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أُقنطهم من رحمتي، فإن تابوا إليّ فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأُطهرهم من المعاصي »[10].
فماذا تقول بعد ذلك؟
ألا توافقني – أخي – أن باب التشويق والترغيب في الله باب عظيم يُلهب مشاعر من يدخل منه، ويوقظ الإيمان في قلبه، ويدفعه إلى المسارعة إلى الله وطلب مغفرته ومحبته، مع أن ما ذُكر لا يُساوي قطرة في بحر وُدُّه.
فإن كان الأمر كذلك ؛ فعلينا أن نُحسن الدخول من هذا الباب، وبخاصة ونحن في بداية رحلتنا الإيمانية وسيرنا نحو الله عز وجل، وهذا يحتاج منا إلى تفكُّر في مظاهر أسمائه وصفاته التي لها علاقة بهذا الأمر، كالوهاب، والرزاق، والمُنعم، والودود، والرحيم، والحليم، والصبور، والغفور، واللطيف ..
هذا التفكُّر يشمل القرآن والكون، أما القرآن فالمتفكر فيه يرى مظاهر حب الله لعباده تقطر من آياته، فخطاب الترغيب في الله والتشويق إليه هو الغالب عليه، ويكفيك في هذا أن سُوَرة تبدأ بـ : « بسم الله الرحمن الرحيم » .. ولا تبدأ بأسماء أخرى من أسمائه سبحانه، وكأن هذه البداية تحمل رسالة تطمين للجميع، وتقول له : أقبل ولا تخف، فربك « رحمن رحيم ».
من هنا نقول بأن القرآن هو أعظم وسيلة للتعرف على الله وتنمية حبِّه والشوق إليه في القلب، فعلينا لزوم هذا الكتاب والمدوامة على قراءته والبحث من خلاله على هذه المعاني.
وأما الكون فالمتفكر فيه يرى الكثير والكثير من آثار حب الله لعباده كمظاهر حلمه وستره وطول إمهاله لهم، وتوالي نِعَمه عليهم.
ومع التفكر في القرآن والكون تأتي أهمية القيام بأعمال صالحة لها علاقة وثيقة بتثبيت عُرى المحبة لله في القلب كإحصاء النعم، ومُناجاة الله بها، وسجود الشكر عند ورود النعم الكبيرة، والقيام برحلات الاعتبار ورؤية أهل البلاء، والقيام كذلك بتحبيب الناس في الله عز وجل.
[1] متفق عليه : أخرجه البخاري (5/2262، رقم 5748)، ومسلم (4/2160، رقم 2804).
[2] حديث صحيح : أخرجه أحمد (1/279، رقم 2519)، والطبراني (12/161، رقم 12760)، والبيهقي في شعب الإيمان (1/300، رقم 334) .
[3] حديث صحيح : أخرجه أحمد (2/194، رقم 6825)، ورجاله رجال الصحيح، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع رقم (5761 ).
[4] حديث صحيح : أخرجه البزار، كما فى كشف الأستار (2/195، رقم 1506)، وابن لال في مكارم الأخلاق، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الجامع رقم ( 1919).
[5] أخرجه أحمد (6/157، رقم 25275)، وإسناده ضعيف لضعف ليث -وهو ابن أبي سليم- وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين.
[6] متفق عليه : أخرجه البخاري ( 1/233 رقم 624 )، ومسلم ( 6/51 رقم 5049 ).
[7] أخرجه البخاري ( 2/731 رقم 1972 ).
[8] حديث صحيح : أخرجه أحمد (3/238، رقم 13518)، وأبو يعلى (7/226، رقم 4226)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة برقم ( 1951 ).
[9] أكلؤهم : أي أحفظهم .
[10] أخرجه الإمام أحمد، وذكره ابن القيم أيضاً من روايته في “مدارج السالكين” (1/ 432-433).