{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8].
أن يخرج الإنسان من دار لدار، ومن عيش آمن إلى عيش آمن في مكان آخر، وأن يترك عملًا يتكسب منه إلى عمل آخر أعلى منه أو على الأقل مواز له فذلك مقبول، لكن أن يخرج الإنسان من داره إلى لا دار، ومن بيته إلى لا بيت، ومن ماله إلى لا مال فذلك الذي يوحي أن هناك خطب ما لابد أن يوقف عنده ليتأمله المتأملون..
إن الصحابة رضوان الله عليهم خرجوا من ديارهم وأموالهم، وضحوا بكل ما يملكون في سبيل الله، وما مثال صهيب الرومي رضي الله عنه عنا بخاف..
فهؤلاء آمنوا، فضحوا وبذلوا، وأوذوا فصبروا، وأخرجوا فتحملوا، وهم فوق ذلك ينصرون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ودينه في كل موطن وبكل ما يمكلون {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}.
لكن اللافت للانتباه هو ما خرج الصحابة من أجله والذي ذكرته الآية الكريمة، فالله سبحانه وتعالى ذكر ما ملأ قلوبهم ودفعهم دفعًا إلى التضحية، والتحمل، واختيار الغربة بعد السكن، ووضَّح سبحانه أنهم فعلوا كل ذلك فقط رجاء أن يتفضّل عليهم سيدهم بمنِّه ورحمته {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ}، وأن ينظر إليهم ربهم نظرة رضا {وَرِضْوَانًا}.
إن الذي يملأ قلبه إحساس الاحتياج إلى التفضُّل، فإنه بلا شك لا يرى لنفسه أي فضل، وأيضًا فالطمع فقط في الرضا يعكس حال إنسان لم ير نفسه ولم ير عمله حين قدّم لله ما قدّم.
وثمة لمحة أخرى في الآية الكريمة.. وهي: متى أُطلِق على الصحابة لقب “الصادقين”؟!!
أطلق عليهم هذا اللقب حين: آمنوا فصدقوا.
وحين تجردوا من أموالهم فصدقوا في أن هذا التجرد لله.
وحين أخرجوا من ديارهم ولا ذنب لهم إلا بالرضا بالله ربا، وبالإسلام دينً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولًا.
وحين نصروا الله ورسوله بكل ما يملكون .. فوقفوا لهم موقف الناصر دائما فكانوا بحق “أنصار الله”..
بل إن الله سبحانه قد امتن على نبيه بنصرة هؤلاء المؤمنين له فقال: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62].
وأطلق عليهم “الصادقين” أيضًا حين رأوا ما قدموه “لاشيء” تجاه ما يليق بالله، فلم يطلبوا الأجر والجنة استحقاقًا.. وإنما طلبوها استجداء، وكان جُلُّ أمانيهم أن يتفضّل عليهم سيدهم بفضله.
وكأن مقياس الصدق وميزانه عند الله.. ان يُقدِّم العباد عامة، وأصحاب الدعوات خاصة، أن يقدِّموا الله ورسوله على كل شيئ ولو كانت أنفسهم أو أموالهم أو أهليهم..
ثم هم فوق ذلك يعيشون بصدق حقيقة أنهم لا يقدمون شيئًا يليق به سبحانه، ولا يرون لأنفسهم فضلا يمنُّون به على الله وعلى نبيه وعلى دينه، بل يعيشون حقيقة قوله تعالى: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17].
فهذان مقامان عاليان.. أولهما: أن يُضحي المرء لله.. وثانيهما: إن يمتلأ من داخله بأن ما يُقدمه ليس شيئًا.
وهما مقامان لا ينبغيان إلا لمن عاش حقيقة: “من هو الله؟ وماذا يستحق”، و”من هو الإنسان؟ وما قدره بجانب قدر الله سبحانه”.
فإذا وصلنا إليهما.. فحينها نسأل الله أن يجعلنا من الذين قال فيهم: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}.