تتكون السورة الكريمة من تسعة عشر آية ، منها عشر آيات تقريبًا – أي أكثر من نصف السورة – تتحدث عن الله سبحانه، وتُعرِّفه بأنه الأعلى، الخالق، المبدع، الهادي لعباده ومخلوقاته، المقدر لأرزاقهم وأمور حياتهم…
وهو سبحانه العليم الخبير بما خفِي وظهر، فالسر عنده علانية، والغيب عنده شهادة..
وهو أيضًا من يمتلك مقاليد الأمور، وتيسير العسير عليه يسير، وهو ييسر عباده لليسرى..
.. والاستفاضة في الحديث عن الله تعالى، والتعريف به في معظم آيات السورة يؤكد قول الأستاذ عمر الأشقر: أن الكتب السماوية جميعها نزلت لتجيب عن سؤال واحد، إنه السؤال الكبير: من هو الله؟
وإن من أعظم نعم الله علينا أن عرفنا بنفسه من خلال الآيات التي تشتمل على أسمائه الحسنى وصفاته العلى وأفعاله في خلقه وفي الكون…
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴾ [الأعلى : 1].
حق الله على العباد:
- التسبيح هو انبهار بأسماء الله وصفاته وأفعاله .
- والتسبيح: أي تنزيهه سبحانه وتعالى عن كل نقص أو شريك، وللتسبيح شأن عجيب.. فهو قد يأتي بأكثر من معنى تبعًا للمواضع التي يرد فيها في الآيات .. فقد يأتي بهدف الشكر: ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ [النصر: 1-3].
وقد يأتي بهدف الاستغفار ﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء : 87].
وفي آية أخرى: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الصافات : 143 ، 144].
وقد يأتي كسبب لتفريج الكروب: ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ﴾ [الحجر : 97 ، 98].
وقد يأتي التسبيح لاستجلاب رضا الله والتوبة: ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ [القلم : 28 ، 29].
ويحسن مع تلك الآية أن يتجاوب القارئ أثناء تلاوتها فيقول : سبحان ربي الأعلى. لِما لذلك التجاوب من أثر على النفس والمشاعر حين يحدث التفاعل مع الآيات وكلماتها..
وللتسبيح فضل كبير وثواب عظيم، فهو يغفر الذنوب، ويزيد الحسنات، ويثقل الميزان، وكما قال صلى الله عليه وسلم: « … وسبحان الله والحمد لله تملأ أو تملآن ما بين السماء والأرض ..»[1].
والإنسان حين يسبح ربه ينضم إلى المنظومة الكونية التي لا تفتُر عن التسبيح: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء : 44].
﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴾ [الأعلى : 1]
من هو الله؟
هو الرب الذي يُربِّي العالمين ويرعاهم ويكلؤهم بنعمه وكرمه ولطفه، وهو المالك المتصرف في شئون العباد جميعهم، وفي شئون الكون كما يشاء سبحانه.. كما نقول: « رب البيت » .. أي: مالكه وصاحبه والمسئول عنه – ولله المثل الأعلى – .
﴿ الْأَعْلَى ﴾:
هو – سبحانه – الأعلى عن كل شيء والمتعالي على كل شيء، سبحانه لا شريك له، تعالى عن الشبيه والنظير والشريك..
﴿ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى﴾ [الأعلى : 2]
من هو الله؟
هو الخالق.. الذي خلق جميع الموجودات فأحسن خلقها، وسوَّاها على أحسن ما يمكن أن تكون.. ومن شاء فليتخيل نفسه على غير الخِلقة التي خلقه الله عليها؛ ليدرك قدر تلك التسوية الإلهية.. يتخيل أن له ثلاثة عيون، أربعة أرجل أو خمسة، قامة منحنية مثل القرد، فمه في جبهته، ليس له رموش أو حاجبين.
فسبحان من خلق فسوى!!
﴿وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ [الأعلى : 3]
من هو الله؟
هو المُقدِّر.. الذي قدَّر كل شيء (الأرزاق- الآجال- الأعمال- … ).
الهادي.. الذي يهدي كل مخلوق إلى ما يناسبه في معيشته..
فهو الذي هدى النحلة فعلمها أين تعيش وكيف تبني بيتها، وكيف تصنع من رحيق الأزهار عسلًا مصفى، والمدهش في بيوت النحل أنها سواء كانت في أفريقيا أو أوربا أو استراليا .. فهي لا تخرج أبدًا عن ذلك الشكل السداسي الرائع المعروف للجميع؛ وذلك لأن من هداها وعلمها هو ” واحد ” لا شريك له.. فسبحان من قدر فهدى!!
﴿وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى﴾ [الأعلى : 4]
من هو الله؟
الله سبحانه وتعالى هو الذي يُنبت الكلأ، وكل ما يتغذى عليه الحيوان، فهو وحده القادر على ذلك، وهو القائم على إطعام كل المخلوقات، ويعرف ما يحتاج إليه كل مخلوق ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ [هود : 6].
فحتى البهائم لها في رزقه وكرمه نصيب وحظ وافر..
﴿فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى﴾ [الأعلى : 5]
من هو الله ؟
إنه القادر سبحانه على أن يجعل هذا المرعى الغض الأخضر اليانع هشيما يابسًا لا يمكن أكله؛ فهو – سبحانه – لا يُعجزه شيء، ولا يعترض إرادته أحد، وإنما أمره بين الكاف والنون.. فسبحان ربي الأعلى.
﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى﴾ [الأعلى : 6]
من هو الله؟
بيده كل الأمور، فهو الذي يُقرئ رسوله صلى الله عليه وسلم قراءة لا ينساها، ولو شاء لأنساه ما شاء – سبحانه- فكل شيء يسير حسب مشيئته.. فنحن نقرأ بمشيئته ، ونتعلم بمشيئته، ونتذكر بمشيئته، وننسى أيضًا بمشيئته «ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن».
من هو الإنسان؟
ينسى.. فالنسيان من طبعه، بل هو طبع لا ينفك عنه، ولذلك سُمِّي إنسانًا.. ومن رحمة الله الرحيم الودود، ومعرفته بهذه الخاصية ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ؟﴾ [الملك : 14]؛ فقد تجاوز عنه إذا نسي، كرما منه سبحانه وتفضلًا ورفقًا بذلك المخلوق الضعيف.
﴿إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى﴾ [الأعلى : 7]
من هو الله؟
يفعل ما يشاء، يقول للشيء كن فيكون، ولا راد لقضائه، ولا معقب لأمره، ولا يستطيع أحد أن يسأله عن شيء فعله ..
فهو قد يُنسي رسوله صلى الله عليه وسلم ما شاءت حكمته وعلمه أن يُنسيه إياه، فهو يفعل ما شاء وقتما شاء.. سبحانه وتعالى.
هو سبحانه يعلم الجهر وما يخفى؛ فهو محيط بكل ظاهر وباطن، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر… يعلم ما في قاع البحار، وما فوق قمم الجبال، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار…
حقوق الله على العباد:
- مراقبة الله تعالى في كل الأحوال والأقوال والأفعال، فهو يعلم السر وأخفى.
- تفويض الأمور إليه والاستسلام لحكمه، لأنه سبحانه يفعل ما يشاء، وهو مدبر الأمر، وهو الرب المالك المتصرف في كل شيء.
﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾ [الأعلى : 8]
من هو الله؟
هو سبحانه الذي ييسر أمور عباده، لا سهل إلا ما جعله سهلًا، وهو إذا شاء جعل الحزن سهلًا.. وإن العبد (بعمله) وطلبه ورغبته يكون مؤهلًا لنيل هذا التيسير، فالبداية تكون دائما من العبد، ومن ذلك قول الله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ [الليل : 5 – 10].
واجبات العبودية:
طلب التيسير من الله سبحانه في كل الأمور، صغيرها وكبيرها، فهو وحده القادر على ذلك، وإذا علِم من العبد صدق لجوئه وشدة احتياجه أجابه ويسر له أمره، ونُذكِّر بالدعاء: « اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلًا، فأنت إذا شئت جعلت الحزن سهلًا».
فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى : 9]
من هو الرسول صلى الله عليه وسلم؟
وظيفة أي رسول هي التذكير والتنبيه والإرشاد، وليس مكلَّفًا بهداية الناس، وإنما هو وسيلة لتلك الهداية، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ﴾ [الغاشية : 21].
والتذكير له شأن عظيم، لأن الإنسان بطبعه ينسى، لذا فهو يحتاج إلى تذكير دائم، وحث مستمر، وإرشاد إلى معالم الطريق .
من هو الإنسان؟
قد ينتفع بالذكرى، فيرتدع ويستقيم على المنهج، وقد يتكبر فتأخذه العزة بالإثم، وحينها لا تنفعه الذكرى.
يتبع في الحلقة القادمة إن شاء الله
[1] رواه مسلم (1/203 ، رقم 223).