إذا سلكت الطريق إلى الله كان أول الطريق هو الإسلام، فإذا حافظت على أركانه وأوامره، وانتهيت عما نهى ربك.. وخشعت روحك لربها، أنذاك وصلت إلى دائرة الإيمان، فإن جاهدت نفسك في هواها، وأقبلت على ربك بكل جوارحك، وصلت إلى دائرة الإحسان،
ولقد سأل جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فقال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
ولا شك أن الذي يقف في صلاته وهو يستشعر مراقبة الله سيجد لصلاته من الخشوع والجمال واللذة ما لا يراه في صلاة أخرى لا تخضع لهذا الشرط، فماذا لو شعر برؤية الله له في كل حين؟!
إن الله لا يريد العبد الذي يؤمن بوجوده فقط، بل يحس بوجوده معه فيتهيب رؤية الله له حيثما كان، فيؤثر ذلك في سلوكه ويدفعه إلى فعل الخيرات وترك المنكرات، واسمع إلى قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7].. وقوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19].. وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235].. وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب: 52].
فماذا يقول رجل لأخيه إذا أحس أن ثالثهما ربهما؟! وكيف تكون عبادة العبد لربه إذا استحضر ذلك؟!
ومن أسماء الله الحسنى التي أمرنا بإحصائها ومعايشتها: الرقيب والحفيظ والعليم والسميع والبصير..
فمن عايش هذه الأسماء ورددها على قلبه صباح مساء سيرى في قلبه تعظيمًا لربه يملأ عليه وجدانه،فيذهل به عن تعظيم ما سواه، ومواظبة على السير في الطريق إلى الله، وعصمة تحول بينه وبين الوقوع في الحرام، وقوة على تحمل لأداء الطريق إلى رضوان ربه، وسيرى حضور قلبه في العبادة، تسمو به إلى مصاف الخاشعين الصادقين.
وأجمل ما في مراقبة الله تعالى والإحساس بوجوده، هو لذة الأنس به والقرب منه يقول الإمام ابن القيم: إن سرور القلب بالله وفرحه به وقرة العين به لذة لا يشبهها شيء من نعيم الدنيا البتة، وليس له نظير يقاس به، وهو حال من أحوال الجنة. والحديث الشريف يبين أن للإيمان لذة وحلاوة، قال صلى الله عليه وسلم: «ذاق طعم الإيمان من رضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولًا»[1]. وقال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله و رسوله أحب إليه مما سواهما و أن يحب المرء لا يحبه إلا لله و أن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار»[2].
ويحتاج السائرون إلى الله تعالى إلى التذكير بمعية الله لهم، وذلك حتى لا يسيطر عليه الضعف مهما كانت ظروفهم، وحتى لا يفقدوا الأمل إذا رأوا شدة بطش عدوهم، فلله معية عامة ومعية خاصة..
فالمعية العامة هي منه سبحانه وتعالى للخلائق كلها، والمعية الخاصة هي معية النصر والتأييد لعباده الصادقين، فنبي الله موسى عليه السلام يكلفه ربه تعالى أن يذهب هو وأخوه هارون إلى طاغية البشر فرعون وأن يدعوانه إلى الخضوع والإذعان لرب الكون الواحد الأحد، فيسيطر الخوف على نبي الله موسى عليه السلام فيقول: {رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه: 45]، ويأتيهم علاج مرض الخوف من غير الله {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، ومن الواضح أن هذا العلاج قد أتى بثماره، ففي لحظة شديدة على النفس البشرية يصرخ أصحاب موسى وهم يرون فرعون وجنوده من خلفهم والبحر من أمامهم إنّا لمدركون، فيقول نبي الله موسى عليه السلام بثقة المؤمن الذي يستشعر رؤية الله وتأييده {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62].
وكأني بالموقف يتكرر في هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، فعندما يسيطر الخوف على صاحبه الكريم أبي بكر الصديق من أن يقتل أعداء الدعوة صاحب الدعوة محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: يا رسول الله لو نظر أحدهم موضع قدمه لرآنا.. فيقول صلى الله عليه وسلم بثقة المؤمن الذي ارتقى حسه إلى رؤية المعية الكبرى من الله له: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما»، ويثني ربنا عز وجل على جمال إجابة رسولنا صلى الله عليه وسلم، فيسجل هذه الإجابة كي تكون شعار للعاملين بدينه والعاملين له{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، فمراقبة العبد لربه وشعوره بمراقبة الله له تكسب العبد هذا الثبات على الطاعة والمسارعة في فعل الخيرات، بل وتجرده من كل خُلق ذميم، فينعم بهدوء بال فلا يعصف به الأسى أبدًا.
وما أجمل أن ترى أفعال صحابة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ورضوان الله عليهم جميعًا، كانوا إذا أسلموا وتركوا جاهلية الآباء والأجداد ودخلوا في روضة الإسلام يعرف هذا التغير في وجوههم .. فتراهم وكأنهم ولدوا من جديد، أن هناك شيئًا في قلبهم قد تغير فغيّر كل شيء في كيانهم، عادوا يرتبون الأولويات.. ويعظمون ويحقرون من الناس، ويقبلون ويرفضون من الأفعال والكلمات حسب المعيار الإيماني الذي استنارت به قلوبهم، فمن يرى ربه لن يرى عظيمًا سواه. ولن يرى هداية في طريق غير طريقه. كان الصحابة رضوان الله عليهم ينافسون أنفسهم في أن يُرِي الواحد منهم ربه خيرًا، فهذا أنس بن النضر عليه رضوان الله لم يحضر غزوة بدر فيعزم أن يُري الله من نفسه خيرًا.. وينطلق في غزوة أحد صادقًا في وعده الذي قطعه على نفسه حتى فاضت روحه الطاهرة إلى ربها فيدفنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وهو يتلو قول الله تعالى {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23].
وتتفاوت مستويات الناس حسب إيمانهم بربهم واستشعارهم لوجوده وإحساسهم بمراقبته لهم سبحانه، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لأصحابه: أنتم أكثر صومًا وصلاة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهم كانوا خيرًا منكم قالوا: وبم ذلك؟ قال: كانوا أزهد منكم في الدنيا، وأرغب منكم في الآخرة. وقال بعض السلف: ما سبقكم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بشيء وقر في صدره.
[1] أخرجه مسلم. [2] أخرجه الترمذي وأحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع.