تزكية النفس

معرفة حقيقة الإنسان وطبيعة النفس

والمستهدف من معرفة حقيقة الإنسان اليقين بعجزه وضعفه وجهله وافتقاره إلى كل ما يقيمه ويصلحه، فإذا ما تم اليقين بذلك ظهر مدى حاجته لربه، وأنه لو تخلى عنه طرفة عين لهلك.

أما النفس فالمطلوب هو معرفة طبيعتها من حب الفجور والطغيان والعلو، وأنها لو تُركت لما أمرت بطاعة ولا تركت معصية، فإذا عرف ذلك دام حذر العبد منها وعدم رضاه عنها.

حقيقة الإنسان: تعرف على أصلك:

أصل الإنسان هو التراب الذي يمشي عليه، والذي لا يساوي – في نظره – شيئًا مذكورًا، أما بداية خلقه فمن نطفة، لو نظر إليها الإنسان لتقزز منها ﴿ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ﴾ [ عبس: 17 – 20 ].

إذن فأصلنا حقير.. لم تتكون أجسادنا من معادن نفيسه، بل عناصرها مثل عناصر التراب.. هذا هو أصلك أيها الإنسان ﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ﴾ [الطارق: 5 ].

فإذا شمخت بأنفك فتفكر في أصلك وما تحمله في بطنك.

حكى أن مطرف بن عبد الله بن الشخير نظر إلى الملهب بى أبي صفرة، وعليه حلة، يسحبها، ويمشي الخيلاء. فقال: يا أبا عبد الله، ما هذه المشية التي يبغضها الله ورسوله؟ قال الملهب: ألا تعرفني؟ فقال: بل أعرفك؛ أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وحشوك فيما بين ذلك بول وعذرة[1].

فكيف يعجب بنفسه من حاله كذلك؟!

.. إذن فدوام تذكر الواحد منا لأصله من شأنه أن يبعد عنه العُجب والخيلاء. عن أنس قال: كان أبو بكر يخطبنا فيذكر بدء خلق الإنسان حتى إن أحدنا ليقذر، ويقول: خرج من مجرى البول مرتين[2].

من هنا كان الصحابة يحبون السجود على التراب، وتعفير الوجه به، ليتذكروا أصلهم ويبعدوا الكبر عن أنفسهم.

قال الحسن: من خصف نعله، ورقع ثوبه، وعفر وجهه لله عز وجل، فقد برئ من الكبر.

وماذا عن حجمك؟

خلق الله الإنسان، وجعل حجمه صغيرً بالنسبة للكون المحيط به، فالسماوات الطباق، والجبال الشاهقات لها دور كبير في تعريف الإنسان بحجمه الصغير، ومن ثم إزالة الكبر من نفسه: ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾ [ الإسراء: 37 ].

ضعف الإنسان:

خلق الله عز وجل الإنسان ضعيفًا، يقول تعالى: ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 28 ].

خلقه ضعيفًا في كل شيء، فلا يستطيع أن يقاوم وساوس الشيطان.

وليس بمقدوره أن يقاوم نفسه وشهواتها.

ضعيفًا أمام المال والنساء والشهرة والأضواء.

ضعيفًا في جسمانه.. ضعيفًا أمام سلطان النوم.. ضعيفًا أمام أصغر الفيروسات..

فالأصل في الإنسان الضعف، وكل مظهر من مظاهر مقاومته لهذه الأشياء فهي بفضل وإعانة من الله عز وجل، ولو تركه لضعفه ما قاوم نظرة محرمة, ولا مالًا حرامًا، ولا مرضًا من الأمراض: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا﴾ [ النور: 21 ].

ولكننا كثيرًا ماننسى هذه الحقيقة، فترى الواحد منا يصدق نفسه بأنه يستطيع مقاومة فتنة النساء، أو المال.. ويستطيع السهر وعدم النوم.. ولا يغريه بريق الذهب و…..

فما الحل إذن لكى يقف الإنسان على حقيقة ضعفه؟!

الحل يكمن في حسن التعامل مع الدواء الرباني الذي يتمثل في رسائله للبشر، والتي تكشف لهم حقيقة ضعفهم.. هذه الرسائل تأتي الجميع بدون استثناء، وما علينا إلا أن نحسن استقبالها ونفهم المراد منها..

فمن الرسائل التي تكشف ضعف الإنسان أمام نفسه: وقوع حشرة عليه كالبعوضة – مثلًا – وعدم قدرته على التخلص منها أو تفادى لدغتها.

وكذلك بعض الزواحف التي يفاجأ الإنسان بوجودها كل فترة، وينتابه شعور بالضعف أمامها.

ومن صور ذلك أيضًا: عدم القدرة على القيام بالطاعة في بعض الأحيان، فتجد الواحد منا يسمع أذان الفجر ولا يستطيع النهوض للصلاة، ويتمنى صيام يوم من الأيام تطوعًا لله ولا يقدر على ذلك.

ومن تلك الرسائل: أن يتركك فريسة لمرض من الأمراض ليكشف حجم ضعفك أمام ميكروب لا يكاد يرى بالعين.

ومنها أن يتركك لوساوس الشيطان فتظن سوءًا بالآخرين، وتحسدهم، وتتمنى زوال الخير عنهم ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [ النساء: 83 ].

.. إذن فمن أهم الوسائل التي تكشف للإنسان حقيقة ضعفه: حسن استقباله لرسائل المنع التي تأتيه كل يوم ﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [ الأعراف: 130 ].

مسكين أيها العاجز:

من الحقائق التي تنبني عليها شخصية الإنسان أنه عاجز، لا يستطيع جلب النفع لنفسه، أو دفع الضر عنها، كالشخص الذي أصاب الشلل أنحاء جسده.. هل يستطيع دفع ذبابة وقفت على عينه؟!

كذلك نحن جميعًا.. عجزة يتمثل فينا قوله تعالى: ﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ﴾ [الأعراف: 88 ].

نريد الشيء ولا يحدث، ولا نريده ويحدث..

ومن رحمة الله عز وجل بعباده، تذكيره الدائم لهم بهذه الحقيقة؛ ليشتد شعورهم بالحاجة إليه، وابتعادهم عن الكبر وصوره..

والتذكير الإلهي بحقيقة عجز الإنسان يتمثل في صور القهر المختلفة والتي لا يكاد يمر يوم إلا وفيه الكثير منها:

يريد الرجل أن تلد زوجته ولدًا فتأتي أنثي، والأم تريد أن يكون وليدها يشبهها فيشبه أباه..

يذهب أحدنا إلى الفراش متعبًا ويريد النوم فلا يستطيع، وفى يوم آخر يريد السهر لإنجاز بعض أعماله فيغلبه النوم.

نريد الشمس ساطعة غدًا ونحن نتنزه فتمتلئ السماء بالغيوم.

نريد تذكر شيء ما فلا نستطيع… .

وهكذا من صور القهر الإلهي العديدة والتي تمر علينا جميعًا لتشعرنا بعجزنا التام.

الجهل:

من طبيعة الإنسان الجهل بعواقب الأمور ﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾ [ الأعراف: 188 ].

والرسائل التي تذكر الإنسان بحقيقة جهله كثيرة، ولايكاد يمر يوم إلا وفيه بعض منها..

مثال ذلك: الحوادث التي تمر بالعبد وكأنها تقول له: لو كنت تعلم الغيب ما فعلت ذلك.

فمن يأكل طعامًا ثم يتعب منه أو يصاب بالتسمم، لو كان يعلم الغيب ما أكله.

والذي يشترى ثوبًا فيجده صغيرًا عليه، يشكف له مدى جهله بعواقب الأمور.

وكذلك الطالب الذي يذاكر موضوعًا معينًا ويركز فيه جهده، ثم لا يجده أمامه في الامتحان..

فالتوقف عند هذه الأشياء، وتتبعها يُرسِّخ في نفس الإنسان حقيقة جهله، ويدفعه دومًا لاستخارة ربه في كل شيء.

الفقير المحتاج:

لو تفكرنا في طبيعة الإنسان والأشياء التي يحتاجها لقيام حياته، والأشياء التي يملكها ولا يحتاج إلى أحد فيها.. لوجدنا أنه يحتاج أشياء لا تعد ولا تحصى، وأنه فقير فقرًا ذاتيًا ومطلقًا..

فالواحد منا يحتاج دومًا إلى الهواء والأكسجين وإلاهلك اختناقًا.

ويحتاج الماء وإلا مات عطشًا..

ويحتاج إلى الطعام وإلا مات جوعًا..

يحتاج إلى النوم ليرتاح وإلا فقد اتزانه..

يحتاج إلى حفظ ضربات قلبه، وجريان دمه..

يحتاج إلى الدواب لتحمله، والشجر ليظلله..

يحتاج إلى إعانة لفعل الطاعة..

يحتاج إلى عصمة من فعل المعصية..

يحتاج … .

معنى ذلك أن الله عز وجل لو تخلى عن الإنسان وعن إمداده باحتياجاته لهلك، ولصار من أهل الفجور، ولتخطفته الشياطين.

فكيف لنا أن نوقن بهذه الحقيقة؟!

الحل في الدواء الرباني.. رسائل المنع الإلهية.

فعندما يزداد خفقان قلبك، عليك أن تتذكر مدى فقرك إلى الله في حفظ وتعهد هذا القلب، وعندما يدخل رمش في عينك، عليك بتذكر مدى حاجتك إلى الله في حفظ رموشك.

وعندما يزداد ضغط الدم، أو يصاب أحدنا بالصداع أو آلام في البطن أو الصدر، عليه أن يتذكر مدى احتياجه إلى الله في حفظ أعضائه وأجهزته ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ﴾ [ الأنعام: 46 ].

عند جدب السماء وانقطاع الماء، ماذا علينا أن نتذكر؟!

﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ﴾ [الملك: 30].

وعندما يُحال بينك وبين الطاعة، عليك أن تتذكر مدى احتياجك لإعانة الله لك في كل طاعة ﴿وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إلى رَبِّي﴾ [ سبأ: 50 ].

الرسائل الإلهية:

إذن فأهم وسيلة لمعرفة حقيقة الإنسان: حسن التعامل مع رسائل المنع التي تصله من الله بصفة يومية.

فالمرض على سبيل المثال يحمل رسالة تقول لكل منا:

أنت ضعيف لم تستطع مقاومتي.

أنت عاجز لا تستطيع شفاء نفسك ودفع الضر عنها.

أنت جاهل لم تعرف أنك ستمرض في هذا الوقت.

أنت فقير إلى الله في دفع هذا المرض، ودوام حفظ عافيتك.

رسالة الأرق:

أنت ضعيف أمام الأرق.

عاجز لا تستطيع جلب النوم.

جاهل لا تعرف متى ستنام وإلا لذهبت إلى الفراش في هذا الوقت.

فقير إلى الله في جلب النوم، وحفظك وأنت نائم..

.. من هنا تتضح لنا أهمية تتبع مواضع المنع، والتفكر فيها وما تحمله من دلالات والتي من شأنها أن تعرفنا بحقيقتنا ومدى احتياجنا إلى مولانا..

أوحى الله إلى بعض أنبيائه: ” أدرك لي لطيف الفطنة، وخفي اللطف فإنى أحب ذلك، قال: يارب، وما لطيف الفطنة؟ قال: إن وقعت عليك ذبابة فاعلم أنى أنا أوقعتها عليك، فاسألني رفعها. قال: وما خفي اللطف؟ قال: إذا أتتك حبة فاعلم أني أنا ذكرتك بها[3].

وحبذا لو تم ربط التفكر في هذه الآيات والرسائل الإلهية بالإكثار من ذكر (لاحول ولا قوة إلا بالله)، وكذلك كثرة مناجاة الله، والتعبير عن حالة الضعف والعجز والجهل وعظيم الاحتياج إليه، وأنه لاغنى لنا عنه، ولا قيمة لنا بدونه.

كان عيسى بن مريم يقول: اللهم إنى أصبحت لا أملك ما أرجو، ولا أستطيع دفع ما أحاذر، وأصبح الأمر بيد غيري، وأصبحت مرتهنًا بعملي، ولا فقير أفقر مني[4].

يتبع،،،

[1] أدب الدنيا والدين ص 231.

[2] التواضع والخمول لابن أبي الدنيا.

[3] إغاثة اللهفان لابن القيم 1/54.

[4] الزهد للإمام أحمد ص95.