تزكية النفس

هل من سبيل لتغيير ما بالنفس؟

هل من سبيل لتغيير ما بالنفس؟

لماذا ينكشف المستوى الحقيقى للفرد عند تعرضه لبعض المحكات العملية، كأن يُمسَّ رزقه، أو يواجه نقدا أو نصحا من غيره، أو يتعرض لفتن الدنيا واختباراتها؟!

علينا أن نتساءل: كيف تتزلزل الصخور المتجذرة فى محتوانا التكوينى وتتحطم، ويُعاد بناؤها من جديد على أساس العبودية لله عز وجل، ومعانى الإسلام الصحيحة؟

يقينًا.. يوجد حل: على الرغم من الصعوبة القصوى للتغيير الحقيقى للفرد بعيدا عن فترة التكوين الأولى، إلا أنه (يقينًا) توجد حلول عملية وواقعية للتغلب على هذا الأمر.

ومبعث هذا اليقين أمور عدة:

أولها: أن من مقتضى رحمة الله بعباده: علو شأن الأمة الإسلامية وعودتها إلى مكانها الطبيعى فى قيادة البشرية مرة ثانية، لا سيما بعد أن وصلت الأحوال فى أغلب أنحاء الأرض إلى هذا المستوى غير المسبوق من الانحلال والضياع والبعد عن الله، ومما يؤكد هذا المعنى أن هناك نصوصًا من القرآن والسنة تُبشرنا بذلك، كقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾[الصف: 8]. وقوله: {هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] وقوله صلى الله عليه وسلم: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًّا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبريًّا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت». [رواه الإمام أحمد). والمتأمل للحديث من ناحية، وواقع الأمة الحالى من ناحية أخرى -حيث يتهاوى فيها الحكم الجبرى بفضل الله- يجد أن المرحلة القادمة – بإذن الله- هى مرحلة «الخلافة على منهاج النبوة».

ثانيًا: أن الله عز وجل وعدنا بأن يُغير ما بنا إذا غيرنا ما بأنفسنا ﴿ إن اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]. فما دام الله عز وجل قد ربط تغييرنا بتغيير ما بأنفسنا فمعنى ذلك أننا نقدر -بإذنه سبحانه- على القيام بهذا التغيير، وأن هناك وسائل أتاحها لنا من شأنها أن تقوم بزلزلة كل تصور ومحتوى خاطئ فى البنية الأساسية للشخصية، فحاش لله أن يُطالبنا بشىء لا نستطيع القيام به.

ثالثًا: أن جيل الصحابة كان قبل إسلامه أسوأ بمراحل من حالنا الآن، ومع ذلك فقد تغيروا – بفضل الله- تغيُّرًا جذريًّا بعد إسلامهم وسادوا الأرض فى خلال سنوات معدودة، ولم يكن ذلك التغير مرتبطًا بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدليل على ذلك أنهم انطلقوا فى مشارق الأرض ومغاربها بعد وفاته يبلغون رسالة الله، ويُقيمون الحُجة على الناس.

التغيير المنشود: إن ما حدث مع جيل الصحابة من تغيير، ومِن ثَمَّ تمكين، لا ينبغى أن نمر عليه دون الوقوف الطويل أمامه، فهو النموذج الصحيح على مر التاريخ للتغيير وللتمكين الذى يريده الله عز وجل للأمة. فنحن لا نُريد انتصارًا وقتيًّا كما حدث مع جيل صلاح الدين، ثم انقلبت الأمور بعد وفاته فدخل أبناؤه وأشقاؤه فى صراع دفع بعضهم إلى الاستعانة بالصليبيين على إخوانه. ولا نُريد تمكينًا مرتبطًا بجيل من الموجهين التربويين كما حدث فى دولة المرابطين التى تأثرت تأثرًا سلبيًّا بوفاتهم وسرعان ما سقطت.. بل نُريد تمكينًا مستمرًّا يربط الأفراد بالمنهج المؤثر أكثر من ربطهم بالموجهين التربويين، وليس معنى هذا التقليل من شأن الموجه التربوى، ولكن المقصد هو إعادة ترتيب العملية التربوية التى تجعل الفرد يدور فى فلك المنهج المؤثر، ويدور معه الموجه التربوى فيتابعه ويتعرف على تأثير المنهج عليه، فيُقوِّم ما يستحق التقويم، ويضبط ما يستحق الضبط {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1].

نقطة البداية: إن نقطة البداية الصحيحة للتغلب على هذه التحديات هى الشعور الشديد بالخطر، والتقييم الصحيح للواقع، والوقوف على التحديات الحقيقية التى تواجه عملية التغيير، والبحث فى جيل الصحابة عن الكيفية التى وصلوا بها إلى هذا المستوى الذى جعلهم مؤهلين لتلقى نصر الله عز وجل.

نظرة واقعية: إننا الآن أمام واقع فى غاية التعقيد: مؤامرات عالمية لطمس الهوية الإسلامية، وتمييع المعانى الأصيلة وإفراغها من مضمونها داخل نفوس المسلمين.. سماء مفتوحة، وفضائيات تبث السموم، وتضغط على الغرائز، وتدفع نحو السلبية وعبادة الذات والشهوات.. ارتفاع تكاليف إدارة الحياة من جهد ومال ووقت مما يستهلك الفرد، سواء كان ذلك الفرد هو القائم على العملية التربوية (الموجه التربوى)، أو المتلقى.. الفرد الذى يُراد تغييره قد تم تكوينه فى الصغر، وأصبح محتواه التكوينى فى البنية الأساسية شبه مكتمل، ومن ثم فإن الجزء المتاح للتلقى هو الجزء الفارغ فى المحتوى التكوينى، وفى الغالب تكون نسبة هذا الجزء ضئيلة للغاية، ومن ثم فلن تحقق محاولات الإصلاح أهدافها فى التغيير الحقيقى؛ لأن المساحة المتاحة أمامها لا تكفى لإحداث التغيير المطلوب. وفى الوقت نفسه فإن المحتوى التكوينى قد تجذرت فيه المعتقدات والتصورات منذ الصغر، وأصبحت كالصخور الصلبة التى لا يمكن أن تتغير.

فما الحل إذن فى هذه المشكلة الضخمة؟ كيف يمكن زلزلة كل معتقد وتصور خاطئ، واستبدال الصحيح به، لا سيما أن هذه الزلزلة تحتاج إلى قوة جبارة خارقة تحطم الصخور الرواسى، وتعيد بناء المحتوى التكوينى على الأساس الإسلامى الصحيح؟

معنى ذلك أن البحث عن الحل ينبغى أن يكون فى اتجاه التفكير فى إمكانية إيجاد مثل هذه القوة الجبارة المزلزلة. وهنا تبرز أهمية التذكير بحقيقة أن الله عز وجل عندما طالبنا بتغيير ما بأنفسنا، فلقد طالبنا وهو يعلم -سبحانه- أن وسائل التغيير متاحة أمامنا. طالبنا الله -سبحانه – بالتغيير، وهو العليم الخبير بالتحديات والصعوبات التى تواجهنا {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].

فيقينا أن تلك القوة الخارقة الجبارة موجودة.. نعم، قد نكون غافلين عنها، غير منتبهين لها كحالنا مع كثير من آيات الله {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105]، لكنها موجودة.. يقينا موجودة.