هل يمكننا أن نقول بأن كل علم نافع؟ أم أن هناك علوماً غير نافعة؟
وإذا كان هناك علوماً نافعة وأخرى غير نافعة، فما هو المقياس الذي يمكننا أن نقيّم به العلوم من حيث نفعها أو عدمه؟
إننا إذا أردنا الإنصاف في هذه المسألة فيجب أن نُرجع الأشياء إلى أصلها، ونحيل الوسائل إلى غاياتها فالعلم وسيلة من الوسائل…فإلى أي غاية خلقت هذه الوسيلة؟
إن الوظيفة الوحيدة والغاية المتفردة التي خلق الإنسان لأجلها هي عبادة الله بالغيب –كما ذكرنا مراراً في المقالات السابقة- وحيث أن عبادة الله بالغيب تقتضي بعض المعاملات (كالحب والخوف والمهابة والإجلال وتنفيذ الأوامر واجتناب النواهي) وحيث أن كل ذلك يزيد وينقص بحسب المعرفة فعلى قدر المعرفة تكون المعاملة،
إذن فكل معرفة تزيدنا عبودية لله تعالى وتقربنا من الغاية التي خلقنا من أجلها تكون معرفة نافعة، ويكون العلم بها علما نافعاً، وكل معرفة لا تزيدنا عبودية ولا تقربنا من الله فهي علم غير نافع، فضلاً عن العلوم التي تباعدنا من هذه الغاية وتقربنا من ضدها فلا خلاف في حرمتها كالسحر والتنجيم مثلاً.
فإن قلت: علوم الطب والهندسة …إلخ لا تخدم الغاية من خلقنا، ولا تزيدنا معاملة حسنة ولا عبودية لله تعالى، فهل هي من العلوم الغير نافعة؟
فالحق أن علوم الطب والهندسة وغيرها إن طُلِبت لذاتها فهي غير نافعة أما إذا ابتغي بها تسهيل حياة الإنسان ليعبد ربه فتدخل ضمن ما يتقرب به إلى الله، لكن مرتبتها في الطلب ليست هي المرتبة الأولى بل طلب العلم بالله هو الذي يجب أن يحتل المرتبة الأولى بين العلوم.
بل إن العلم بالأحكام الشرعية أو ما يسمى –اصطلاحاً- (بالفقه) يأتي في المرتبة التالية بعد العلم بالله تعالى لأنه وحده دون العلم بالله تعالى وعظمته وجلاله يؤدي إلى طغيان صاحبه وهلاكه.
قال سفيان الثوري: «كان يقال: العلماء ثلاثة: عالم بالله يخشى الله وليس بعالم بأمر الله، وعالم بالله عالم بأمر الله يخشى الله فذلك العالم الكامل، وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله لا يخشى الله فذلك العالم الفاجر»([1]).
قال الإمام أحمد: أصل العلم خشية الله، وقال كثير من السلف: ليس العلم كثرة الرواية وإنما العلم الخشية([2]).
فالعلم النافع هو ما يتوصل به إلى معرفة الله تعالى وخشيته وإجلاله وتعظيمه سبحانه أو يسهل ذلك وغير هذا فهو عبث، دون استثناء لأي علم أو أي فن، فالبلاغة مثلاً علم يبتغى به معرفة مواطن الإعجاز في القرآن والسنة، أما التعمق في الأساليب و التشدق في المسائل البلاغية فهو من قبيل العلوم الغير نافعة، كذلك علم العقيدة فهو علم يتوصل به إلى معرفة أسماء الله وصفاته فهو بذلك من أجّل العلوم وأما الخوض في المسائل الكلامية والفلسفية والجدلية التي لا طائل من ورائها فهو علم غير نافع (اللهم إلا أن يكون رداً على شبهات المبتدعة وبضوابط) …وقس على ذلك جميع العلوم والمعارف.
والدليل على ذلك ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «أعوذ بالله من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع»، وفي حديث آخر قال: «سلوا الله علمًا نافعًا، وتعوذوا بالله من علم لا ينفع»([3])، وهذا يدل -كما يقول ابن رجب- على أن العلم الذي لا يوجب الخشوع في القلب فهو علم غير نافع([4]).
يقول سفيان الثوري: إنما فُضِّل العلم لأنه يُتَّقى الله به، وإلا كان كسائر الأشياء.
ومن الملاحظ أن كلمة العلم في القرآن كثيرًا ما تدور حول هذا المعنى كقوله تعالى: “إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ” [فاطر: 28].
وقوله: “أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ” [الزمر: 9].
العلم الراسخ
إذن إن أردنا أن نربي عقولنا تربية معرفية صحيحة فيجب أن نغذيها بالعلم النافع أي العلم الذي يؤدي إلى تحسين المعاملة مع الله عز وجل، ولكن هل تكون التربية المعرفية بمجرد قراءة الكتب أو سماع الدروس؟
الجواب أنه هناك فرق بين المعلومات التي يتربى عليها الإنسان فتنشئ علماً راسخاً في اللاشعور وتشكل جزءاً أساسياً في معاملات الإنسان وتصرفاته، وبين المعلومات التي يسمعها الإنسان أو يقرأها مرة أو مرتين -وقد يصدق بها- لكنها لا تشكل له إلا معلومة عابرة يستدعيها بشعوره فقط ولا تؤثر في سلوكه ومعاملاته.
فالأولى تسمى علماً راسخاً أو يقيناً كعلمنا بأسمائنا فعندما ننادى بأسمائنا فإننا دون أن نفكر يعرف أحدنا أنه المقصود بالنداء.
والثانية تسمى علماً غير راسخ كأن يسمع أحدنا محاضرة عن الرضا بالقضاء –مثلاً- فيصدق بها لكنه بعد قليل ما يلبث إلى أن يسخط على أمرٍ ما وينسى ما سمعه وهذا لأن ما سمعه لم يدخل في اللاشعور.
فإذا أردنا أن نجعل من معلوماتنا المختلفة علماً راسخاً فعلينا بما يسمى بالتربية المعرفية
وهي: عمل مكرر متتابع يهدف إلى إحداث أثر دائم في المعتقدات ومن ثم في السلوك والمعاملات.
ومن هنا نعلم أن هدف التربية المعرفية هو: تحصيل العلم النافع الراسخ بالله عز وجل، عن طريق إكساب العقل تلقائية التفكير في كل شيء وربطه بالله سبحانه وتعالى.
([1]) أخرجه الدارمي (367) المقدمة.
([2]) شرح حديث أبي الدرداء (من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا) لابن رحب الحنبلي.
([3]) صحيح الجامع الصغير (3635).
([4]) شرح حديث أبي الدرداء (من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا) لابن رحب الحنبلي.