من أبرز جوانب الهداية في سورة الفجر:
العبرة من قصص السابقين.
من هو الإنسان.
قصة الوجود.. وبخاصة ” الفصل الأخير ” منها، حيث العرض على الله سبحانه يوم القيامة ومشاهد ذلك اليوم الرهيب، وموقف الإنسان في ذلك اليوم؛ وبخاصة إن لم يكن قد أعد له عُدَّة وحسب له حسابًا..﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ [الفجر : 24].
ومن خلال عرض هذه الثلاث جوانب، يتراءى لنا جانب رابع من جوانب الهداية، ويلقي بظلاله على جميع أحداث السورة ومشاهدها..
هل توقعتم ما هو هذا الجانب؟
.. نعم.. إنه (من هو الله سبحانه؟) .. إنه ذلك الجانب الذي لا يختفي من أي سورة وإن – قصرت – ولسوف يتضح لنا ذلك جليًّا من خلال السورة؛ فنرى أن الله سبحانه هو القوة الفاعلة الوحيدة والمطلقة.. سنجده عليمًا، خبيرًا، قويًّا، مقتدرًا، شديد العقاب، سريع الحساب، حكيمًَا في تصريف أمور العباد، عليمًا بخبايا نفوسهم، وما تكنه صدورهم..
فهيا نفتح الباب لنتعرف على سورة الفجر، ونغترف من الهداية التي تحملها لنا..
﴿وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾ [الفجر : 1 – 4].
من هو الله سبحانه؟:
الله سبحانه هو الخالق، هو خالق كل شيء، وهو سبحانه له أن يقسم بما شاء من مخلوقاته.. في حين لا ينبغي لأحد من العباد أن يُقْسِم إلا بالله سبحانه.
وحين يقسم سبحانه فهذا إشعار وتنبيه للمؤمنين ولمن يقرؤون القرآن: أن اهتموا بالأمر، وانتظروا جواب القسم فلابد أنه أمر عظيم، وثمة رسالة يريد الرب الخالق أن يوصلها إليكم، فلتستعدوا لاستقبالها ولتعيها عقولكم ولتنفتح لها قلوبكم.
﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ﴾ [الفجر : 5]
من هو الإنسان؟:
عنده قابلية للإعراض والتكذيب، والعناد والشقاق طبع من طباعه.. لذلك تتساءل الآية: أليس في كل هذه الأقسام ما يقنع ذلك الإنسان الذي أعطاه الله سبحانه عقلًا يزن به الأمور..
ومن الناس من يقدر القسم القرآني ويُعظِّم قدره، كما حدث من ذلك الأعرابي البسيط في تفكيره حين سمع قارئًا يقرأ: ﴿فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾ [الذاريات : 23].. فانزعج الأعرابي وأخذ يردد: من الذي أغضب الجليل حتى حلف؟!
أما البعض الآخر فقد لا ينتبه لذلك القسم، أو قد لا يختلف معه الأمر..
ما هو القرآن؟
من أساليب القرآن المؤثرة والمنبهة والمستثيرة للمشاعر الاستفهام، القسم … وأساليب أخرى تعد من أسرار القرآن التي يخاطب بها العقل والقلب معًا، والتي لا يملك معها القارئ سوى الإذعان والاستسلام لهذا الكتاب العظيم…
يقول د. جيفري لانج – وهو أمريكي اعتنق الإسلام – عندما أحسن التعامل مع القرآن، فكان القرآن هو بدايته مع الهداية والاستقامة.. يقول عن القرآن: «وإذا ما اتخذت القرآن بجدية فلن يمكنك قراءته ببساطة إلا وتستسلم له، فهو يحمل عليك، وهو يجادلك، وينتقدك، ويُخجلك، ويتحداك.. ويرسم خيوط المعركة… لقد كنت على الطرف الآخر من المواجهة، وقد بدا أن مبدع هذا القرآن كان يعرفني أكثر مما كنت أعرف نفسي.. كان القرآن دائمًا يسبقني في تفكيري ويخاطب تساؤلاتي»..
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ﴾ [الفجر : 6]
من هو الله سبحانه؟:
- هو الرب، المالك، المتصرف في شئون خلقه.
- هو المنتقم، القوي، المقتدر، الذي لا يعجزه شيء، إذا أراد أن يهلك قومًا أهلكهم بقول: كن، فيكون ما أراده سبحانه، مهما كان هؤلاء القوم في قوة عاد وثمود.. وليس من حق أحد أن يتساءل عن سبب إهلاكهم، فهو سبحانه ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ..﴾ [الأنبياء : 23].
ومع ذلك فهو يذكر دائمًا أسباب العقوبة في كل موضع يذكر فيه أمر إهلاك قوم أو إبادتهم.
ما هو القرآن؟:
عودة للاستفهام مجددًا، وهو هنا للتشويق ولفت الانتباه للقصة التي سيتم ذكرها.
﴿إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ﴾ [الفجر : 7 ، 8].
من هو الإنسان؟
قد يتكبر ويطغى إذا أوتي بعض القوة أو البأس أو الملك أو التمكين أو الصحة… ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ [العلق : 6 ، 7].
وهنا نجد قوم عاد عندما وجدوا قوة وبأسًا في أبدانهم أعرضوا عن الحق، وظنوا أن قوتهم وبطشهم تمنعهم من الله سبحانه ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَقَالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟..﴾ [فصلت : 15].
لقد نسوا ﴿أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ [فصلت : 15]، وأنه سبحانه هو الذي وهبهم القوة والبأس ليختبرهم وينظر كيف يعملون..
﴿وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ﴾ [الفجر : 9]
من هو الإنسان؟
شأن ثمود كشأن عاد، وحالهم كحالهم، فالإنسان هو الإنسان – إلا من رحم ربي – فقد تمادى قوم ثمود في التكبر والتعالي والبطر، واغتروا بقوتهم التي ظنوا أنهم يمتلكونها امتلاكًا ذاتيًا ونسوا أن الله هو الذي وهبها لهم..
ولقد بلغ بهم التمادي في باطلهم إلى حد أن يتسلوا بحفر القصور والمنازل في الجبال ثم لا يسكنونها.. أي أنهم كانوا ينحتونها من باب التسلية والتباهي والمفاخرة ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ﴾ [الشعراء : 128].
﴿وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ﴾ [الفجر : 10]
من هو الإنسان؟:
ليس فرعون بأحسن حالًا، بل إنه تفرد بالتبجح والسفه والإسراف في سوء الأدب مع الله فقال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ [النازعات : 24]، ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص : 38]..
وإن كانت عاد وثمود قد اغترتا بقوتيهما، فقد اغتر فرعون بملكه وجنوده وحشمه وقصوره وشعبه المخدوع الضعيف المُستَخَف بعقله ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ [الزخرف : 54].
.. وأما ما فعله مع بني إسرائيل من قتل وتعذيب وتنكيل فلا يخفى على أحد.. فانظر أيها القارئ إلى أي حال قد يصل الإنسان حين يطغى ويبتعد عن ربه؟ ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ [النحل : 4].
﴿الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ﴾ [الفجر : 11 ، 12].
من هو الإنسان؟:
يتحدث الله هنا عن أهل الطغيان بإجمال بعد تفصيل، فكلهم طغوا وأفسدوا، وكلهم يشتركون في أن طغيانهم سببه أن الله أعطاهم قوة أو سلطانًا أو مالًا أو جاهًا… فظنوا أنهم قد استغنوا عن ربهم فتجاوزوا حدودهم في عداوة الحق وأهله وتكبروا وتعالوا، فاستحقوا مقت الله وسخطه وعذابه ﴿وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ؟﴾ [سبأ : 17].
﴿فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ﴾ [الفجر : 13].
من هو الله سبحانه؟
المنتقم، القوي، المقتدر، الحكم العدل.
فلو أن الطغاة على أشكالهم وألوانهم تُركوا هكذا في الأرض بلا عقوبة، لما استطاع أحد أن يتوقع حال الحياة على وجه الأرض، ولكن لابد من معتبَر للناس، حتى يروا ويعلموا مصارع الطغاة، وكيف أنهم لم يعجزوا الله سبحانه، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر.. هذا بخلاف ما أعده الله للطغاة يوم القيامة، وإذا كانت الآية تصف عقوبتهم في الدنيا أن الله سبحانه قد (صبَّ عليهم العذاب صبًّا) فكيف يكون عقابهم في الآخرة.. نسأل الله العافية.
﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ [الفجر : 14]
من هو الله سبحانه؟:
الله سبحانه يمهل ولا يهمل، يُعطي العصاة والطغاة الفرصة تلو الفرصة علَّهم يتوبوا أو يرجعوا، ثم هو سبحانه أيضًا يرصد حركاتهم وأفعالهم… يرسل إليهم الرسل ليقيم عليهم الحجة ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء : 165].. لذا حين يكذبون يكون لزامًا أن يذوقوا العذاب ألوانًا وألوانًا ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف : 49].
- الله سبحانه الحكم العدل، لا يستوي عنده المسيء والمحسن أبدًا..
- الله سبحانه هو (الودود).. ومن مظاهر وده أن يعرض لنا صور إهلاك الظالمين الطاغين مثل عاد وثمود وفرعون وقارون وقوم لوط.. ليحذر المؤمنين من ذلك المآل النكير، ويطمئنهم في نفس الوقت أنه لا أحد يفلت من العقوبة، وأنه يرصد حركات الطواغيت وعملهم، فإذا أخذهم لم يفلتهم، وبالتالي يشفي صدور قوم مؤمنين، ويُذهب غيظ قلوبهم، وحتى إن لم ير المؤمنون مصارع الطغاة في الدنيا، فهم يطمئنون لجزاء الله العادل لهم في الآخرة..
- وهي رسالة ود للمؤمنين وكل لبيب بالإشارة يفهم..
العبرة من قصص السابقين:
ورود القصص في القرآن ليس من باب التسلية أو مجرد سرد القصة، ولكن لتقديم الدروس والعبر في طيات أحداث القصة ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [يوسف : 111]، ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف : 176].
وهنا يعتبر الإنسان – أي إنسان – غرَّته قوته أو صحَّته أو ماله، فيعلم أنها من الله سبحانه، وأن الله قادر أن ينزعها منه وقتما يشاء وكيفما يشاء .. لأنه مهما بلغت قوته فإنه لا ولن يعجز الله سبحانه.