﴿سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى﴾ [الأعلى : 10]
لا ينتفع بالذكرى إلا أصحاب الخشية والإيمان لأن قلوبهم مستعدة لذلك، وخشيتهم تجعلهم يستجيبون بسرعة للتذكرة، لذلك يقول سبحانه في موضع آخر: ﴿ إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ [طه : 3]. إنهم المؤهَّلون للاستقامة والاعتدال.
من واجبات العبودية:
الخشية.. وهي الخوف من الله سبحانه؛ ولكن الخشية أشمل في معناها من الخوف، فالخشية تعني الخوف مع الحب، أي حب الله ، والطمع في عفوه.
﴿وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى﴾ [الأعلى : 11]
من هو الإنسان؟
قد يبتعد عن ربه ويسرف على نفسه فيسير في طريق الشقاء ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا…﴾ [طه : 124].
والناس منهم “الشقي”، ومنهم “الأشقى”.. وهو الذي ليس فقط لا يستجيب للتذكرة، بل يتجنب التعرض إلى مصادرها، وإذا سمعها أعرض عنها، ويكون ذلك سبب شقائه في الدارين والعياذ بالله.
﴿الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى﴾ [الأعلى : 12]
قصة الوجود:
لما رسب هذا الشقي، بل “الأشقى” في امتحان الدنيا والذي هو “امتحان العبودية” الذي يؤديه جميع الخلق منذ أن يوجدوا على الأرض، وحتى لا تنتهي حياتهم عليها، لما رسب في ذلك الامتحان وأعرض عن الذكر وخلا قلبه من حشية الله، كان لزاما أن تسوء نهايته، وتكون النار مآله – والعياذ بالله – وليست أي نار، إن الله سبحانه يقول عنها: ﴿النَّارَ الْكُبْرَى﴾ [الأعلى : 12].
فرغم أن لفظ النار وحده يكفي، لأن الكل يعرف أن نار الآخرة أضعاف أضعاف نار الدنيا التي نعرفها، أما حين يصفها الله سبحانه بالنار “الكبرى” فهذا مبالغة في التخويف حتى يتجنبها كل ذي عقل يتدبر تلك الآيات ويُحسن فهمها.
إذن ليعلم ذلك “الأشقى” أن الدنيا ليست نهاية المطاف، وإنها «لجنة أبدًا، أو لنار أبدًا».
من هو الله سبحانه وتعالى؟
هو الحكم العدل، فلا يستوي عنده المفسد والمصلح ﴿أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [ص : 28]، بل لابد من نهاية عاجلة للامتحان حتى يُثاب المحسن ويُعاقب المسيء..
ومن عدله سبحانه أنه لا يُعاقب إلا بعد إرسال الرسل، الذين يُذكِّرون العباد بربهم وبالطريق المؤدية إليه وإلى مرضاته، فمن أعرض عن الذكرى استحق العقوبة ﴿مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء : 15].
﴿ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى﴾ [الأعلى : 13]
قصة الوجود:
نهاية المطاف لأولئك العصاة هي النار الكبرى، التي لا موت فيها يُريح من العذاب، ولا حياة كريمة يرتاح فيها صاحبها، فهي حياة بين الجحيم والحميم والغساق والسلاسل والأغلال .. فبئست الحياة.
من هو الله سبحانه وتعالى؟
الحكم العدل.. ولابد للمسيء من عقوبة، فهل تستوي الحسنة والسيئة؛ وهو الودود المُحب لعباده، فهو سبحانه يعرض لعباده ولكل من سيقرأ تلك الآيات – صورًا منفرة لما سوف يلاقيه أهل النار من العذاب والهوان حتى يفرُّوا من النار ويتَّقوا شرَّها، وفي هذا رحمة بهم.. ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾ [الزمر : 16].. فذكر سبحانه أنهم «عباده» ومع ذلك فهو يخوفهم كي لا يقعوا فيما يستدعي غضبه، وذلك من فرط حبه لهم، فهو لا يرتضي لهم أن يقترفوا ما يُعرِّضهم لغضبه ومساءلته.
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾ [الأعلى : 14]
من هو الإنسان، والنفس البشرية؟
النفس قابلة للتطهير والتزكية، وهي تحتاج باستمرار إلى التربية والتعاهد والمجاهدة حتى تتطهر من طباعها التي جُبِلت عليها، أما إذا أُهملت وتُركت دون تعاهد فإنها تخبث وتعوج، فيكون ذلك وبالًا على صاحبها.
ومن وسائل تزكية النفس: تربيتها على التواضع وعدم ترك القياد لها؛ لأنها أمارة بالسوء، بل ينبغي سوء الظن بها واتهامها، وإلجامها لجام الخوف من الله سبحانه وتعالى حتى تصبح نفسًا لوامة مطمئنة، لذلك تشير الآية إلى فلاح من تزكى أن زكى نفسه وطهرها..
وكما قال الله سبحانه في آية أخرى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس : 9 ، 10].
﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ [الأعلى : 15]
حقوق الله على العباد:
1- الذِكر: وهو أيضًا من أسباب الفلاح لأن الآية معطوفة على التي قبلها.. وخير الذكر ما تواطأ فيه القلب مع اللسان.
والذكر لا يعني فقط مجرد التسبيحات والتكبيرات و… ولكن الذكر يعني – كما قال العلماء – تذكر الله سبحانه في كل الأوقات، أي استحضار وجوده ومعيته في كل لحظة، لذلك قُرِن الذكر دائمًا في القرآن بقوله سبحانه «كثيرًا»، لأنه العبادة الوحيدة التي تستمر في كل وقت، فالمؤمن في حالة ذكر مستمرة لله سبحانه حتى وهو يُقاتل ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا…﴾ [الأنفال : 45].
2- الصلاة: أفضل الذكر، وفيها تتجمع صور كثيرة له: من قراءة للقرآن، وتسبيح، وتحميد، وتكبير، ودعاء، ولذا قال سبحانه فيها ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [العنكبوت : 45].
من هو الله؟
هو الرب المالك المتصرف في شئون خلقه وأمور حياتهم، وهو المربي لهم بنعمه..
﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ [الأعلى : 16]
من هو الإنسان، وما هي النفس البشرية؟
الإنسان يحب الدنيا ومباهجها ومتاعها، مشغول دائمًا بتعميرها، والاستزادة منها على حساب الآخرة..لذلك فهو يؤثر الحياة الدنيا، ويحب البقاء فيها، ويتشبث بها، فما من أحد يحب أن ينتقل من العمران إلى الخراب.
لماذا لا يتبع الناس الحق؟
لأنهم يؤثرون الحياة الدنيا، ويؤثرون التنعم والراحة على تكاليف العبودية التي يرونها ثقيلة – وما هي بثقيلة – إن يريدون إلا فرارًا من الالتزام بها، والتقيد بأحكامها؛ ولذلك فإنهم إذا ذُكِّروا لا يذكرون، ولا يفكرون أبدًا في تزكية أنفسهم، والخضوع لسلطان الحق، ولذلك يخسرون كل شيء، ولعلمهم بتقصيرهم في تعمير آخرتهم كرهوا الانتقال إليها وآثروا البقاء في الدنيا التي حكم الله عليها بالفناء في الأصل، ولكنهم مخدوعون بها.. نسأل الله العافية.
﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [الأعلى : 17]
قصة الوجود:
النهاية الحتمية للاختبار الدنيوي، اختبار العبودية، هي الآخرة التي ينتفع فيها المحسن بإحسانه، ويندم المسيء على إساءته.. لذلك يُذكِّر الله – سبحانه – عباده بأن العمل للآخرة هو الذي يبقى وينفع صاحبه، أما الدنيا فهي فانية زائلة زائفة ﴿ كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ﴾ [الكهف : 45].. فهي حياة قصيرة لا ينبغي أن ينخدع بها العاقل، فالآخرة خير وأبقى..
﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ [الأعلى : 18 ، 19]
ما هو القرآن؟ وما هي الرسالة؟
القرآن هو خاتم الكتب وأعظمها، وهو مُصدِّق لها ومهيمن عليها..
وكل ما جاء به الأنبياء من كتب أصله واحد، فهو من عند الله سبحانه، وإن اختلفت الرسالات والملل والكتب، فكله يخرج من مشكاة واحدة، وكله يدعو دعوة واحدة وهي: توحيد الله سبحانه وإفراده بالعبادة، سواء كان القرآن الكريم أو صحف إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام .
دروس مستفادة وواجبات عملية:
1- أهمية التسبيح .. حيث جاء الحث عليه بصيغة الأمر ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ [الأعلى : 1].. وأي أمر في القرآن يعتبر فرض على الأمة كما أجمع على ذلك علماء أصول الفقه.
وإن الكون كله يُسبح ، فكيف يشذ ذلك الإنسان عن منظومة التسبيح، بل عليه أن ينسجم مع الكون وينضم إلى قوافل المسبحين.
2- أهمية التفكر في الكون وفي مخلوقات الله سبحانه؛ لأن لذلك أثره على تواطؤ القلب مع اللسان أثناء الذكر ومِن ثَمَّ زيادة الإيمان، لذلك قال أبو الدرداء: «تفكر ساعة خير من قيام ليلة».. لِما في التفكر من مردود إيجابي على القلب وملئه بمعاني العبودية المختلفة من تعظيم لله، وتقديس، ورجاء، وخوف، وشكر، وإنابة، وتوكل…
وكما قيل: «ما زال أهل العلم يعودون بالفكر على الذكر، وبالذكر على الفكر حتى استنطقوا القلوب فنطقت بالحكمة».
3- العلاقة الوطيدة بين “الخشية والتذكر”، وأنه لا يتذكر إلا من يخشى، ولا يخشى الله سبحانه إلا من يعرفه ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر : 28].. أي: العلماء به سبحانه… وكما قال صلى الله عليه وسلم: « إنما أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له » رواه مسلم.
وقال:«من كان بالله أعرفن كان لله أخوف».
فلنجتهد في التعرف على الله سبحانه من خلال كلامه ( القرآن )، ومن خلال أسمائه وصفاته المبثوثة على صفحات الكون من حولنا .. وكما قال ابن القيم: «المعرفة بوابة العبودية».
وأفضل الطرق للتعرف على الله سبحانه هي كتابه الكريم، حيث يعرفنا فيه بنفسه وصفاته، وأفعاله دون واسطة، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه ( عرفت ربي بربي، ولولا ربي ما عرفت ربي).. يقصد عرف الله سبحانه من خلال القرآن..
4- التوجه إلى الله سبحانه قبل أي عمل نقوم به، فنطلب منه تيسير العمل، ونطلب منه، التوفيق فيه ولا ننس « اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلًا، فأنت إذا شئت جعلت الحزن سهلًا».
5- مراقبة الله سبحانه وتعالى في كل الأحوال، فهو سبحانه يعلم السر وأخفى.