إن القرآن الكريم يطرح جميع الحقائق التي ينبغي الإيمان بها طرحًا يُخاطب به العقل فيُقنعه بشتى أساليب الإقناع من خلال الحوار الذي يُشعر قارئ القرآن أنه أحد أطرافه، ويصل معه في النهاية إلى الإجابة المقنعة للقضية المثارة، وخلال هذا الحوار نجد هناك أسئلة تُطرح وأمثلة تُضرب وإجابات تُفحِم وتُدحِض أي شبهة.
فعلى سبيل المثال:
شبهة أن القرآن ليس من عند الله، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد افتراه من عنده، نجد الرد على هذه الشبهة في أكثر من موضع في القرآن بأدلة عقلية دامغة كقوله تعالى في سورة هود : ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِنْ لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [هود : 13، 14].
.. ومع الإقناع العقلي فإن القرآن يستثير المشاعر في نفس الوقت من خلال أساليبه المتنوعة من تشويق وترغيب وترهيب، ومن خلال القصة والموعظة، فعلى سبيل المثال : سورة النبأ تناقش قضية البعث والجزاء، وتُثبتها من الناحية العقلية من خلال حثّ القارئ على الإجابة على أسئلة بدهية مفادها أن الذي جعل لك النوم سُباتًا، والنهار معاشًا، وأنزل المطر، وبسط الأرض، وثبَّتها بالجبال، و هو الذي يُخبرك أن هناك يومًا للجزاء …
ومع هذا الإقناع العقلي يأتي الترهيب بذكر هول يوم القيامة وبشاعة النار، وكذلك ذكر الجنة، وبعض ما فيها من ألوان النعيم، فتُستثار المشاعر مع تلك القناعة العقلية فينشأ الإيمان بإذن الله.
وليس ذلك فحسب … فمن أهم الوسائل التي يتفرد بها القرآن لاستثارة المشاعر هي الطريقة التي ينبغي أن يُتلى بها ؛ ألا وهي الترتيل والتغني به طبقًا لأحكام التجويد ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزمل : 4].
أهمية الترتيل:
إن تحسين الصوت بالقرآن وترتيله له وظيفة عظيمة في الطرق على المشاعر لاستثارتها، فيؤدي ذلك إلى امتزاج القناعة العقلية بالعواطف المنفعلة، لذلك كان الحث على تحسين الصوت عند قراءة القرآن.
قال صلى الله عليه وسلم : « زينوا القرآن بأصواتكم »[1].
وقال : « ليس منَّا من لم يتغن بالقرآن »[2].
وقيل لابن أبي مُليكة :« يا أبا محمد، أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت؟ قال: يحسنه ما استطاع »[3].
ويؤكد ابن حجر العسقلاني على هذا المعنى فيقول:
والذي يتحصل من الأدلة أن حُسن الصوت بالقرآن مطلوب، فإن لم يكن حسنًا فليحسنه ما استطاع[4].
ويقول الجيوسي في كتابه « التعبير القرآني والدلالة النفسية »:
القرآن الكريم كتابٌ لا كأي كتاب، فهو يُتلى بطريقة مرتبة، على أصول منظمة، يجب أن تُراعى فيه قواعد القراءة وأصول الأداء، وهذا مما اختص به القرآن الكريم على سائر الكتب، وورود الأمر بذلك في الآيات الأولى من مرحلة نزول القرآن ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴾ [المزمل:4].
ولا شك أن هناك قواعد تتصل بالأداء القرآني لابد من مراعاتها كأحكام التجويد، فالتجويد هو التحسين.
.. هذه الأحكام التي ينبغي لقارئ القرآن أن يُراعيها هي في حقيقة الأمر أحد أسرار ذلك الإيقاع الذي يشدُّ الأسماع إليه، لا تكاد تخلو آية من حُكم ما بين غُنّة أو مدّ أو إخفاء، أو غير ذلك من الأحكام التي تفرض على السامع لونًا معينًا لا يعهده في الكلام الاعتيادي، وإذا ما علمنا أن قراءة القرآن ينبغي أن تكون بالترتيل وبمراعاة هذه الأحكام، أدركنا أن ذلك سرٌّ كامنٌ في كتاب الله، هذا الذي يجعل النفس تنجذب إليه [5].
فإذا ما اقترن ذلك بحضور العقل وتفهُّمه للخطاب كان الأثر عظيمًا على القلب كحال وفد نصارى نجران عندما استمعوا للقرآن ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ﴾ [المائدة : 83].
وجدير بالذكر أن ( التغني بالقرآن هو تحسين الصوت بقراءة القرآن، بخلاف الغناء المعروف في زماننا، فالقصد من هذا الغناء أن يطرب ويُطرب غيره لا ليتعظ ويعتبر، فالتغني بالقرآن إذًا هو : استماع المتكلم لما يُتَكلم به، مترنمًا بالنطق، مستحبًّا له، مستلمحًا مستطيبًا للكلمات، ذوقًا لها ولمعانيها )[6].
ويؤكد الحافظ ابن كثير على هذا المعنى فيقول:
والغرض أن المطلوب شرعًا إنما هو التحسين بالصوت الباعث على تدبر القرآن وتفهمه، والخشوع والخضوع والانقياد للطاعة، فأما الأصوات بالنغمات المحدثة المركبة على الأوزان، والأوضاع المُلهية والقانون الموسيقائي، فالقرآن يُنزَّه عن ذلك[7].
أهمية المداومة على تلاوة القرآن:
القرآن يُخاطب العقل فيُقنعه، ويضغط على المشاعر فيستثيرها، لينشأ بذلك الإيمان – بإذن الله -، فيُثمر ذلك الإيمان مزيدًا من العبودية لله عز وجل ﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [الزمر : 27، 28].
والقرآن يعرض جميع الحقائق التي ينبغي الإيمان بها، وعلى رأسها الإيمان بالله عز وجل وبأسمائه وصفاته.
والإيمان الذي يحدثه القرآن يتناول جميع المشاعر، فإذا ما داوم المرء على تلاوته، وأعطاه وقتًا معتبرًا من يومه فإن هذا من شأنه أن يزيده إيمانًا، وهكذا تستمر زيادة الإيمان حتى تستقر وترسخ في المشاعر، وتكون له اليد الطولى بها، وباستمرار التلاوة يزداد الترقي الإيماني، ويزداد ظهور ثمار الإيمان.
من هنا كان الحث في القرآن والسنة على ضرورة المداومة على تلاوة القرآن حتى يتحقق مقصوده العظيم بتحصيل العلم والإيمان والترقي في مدارج السائرين إلى الله.
فمن الآيات قوله تعالى : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ﴾ [فاطر : 29].
وقوله : ﴿ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ ﴾ [النمل : 91، 92].
وقوله : ﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ﴾ [العنكبوت : 45].
ومن الأحاديث النبوية، قوله صلى الله عليه وسلم : « تعاهدوا القرآن، فوالذي نفسي بيده لهو أشد تَفَصِّيًا من قلوب الرجال من الإبل من عُقلها »[8].
وقوله : « اقرؤوا القرآن واعملوا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلوا فيه، ولا تأكلوا به، ولا تستأثروا به»[9].
ولمّا جاء وفد ثقيف إلى المدينة أنزلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة بين المسجد، وبين أهله، فكان يأتيهم ويُحدثهم بعد العشاء، وفي ليلة من الليالي تأخر عليهم ثم أتاهم، فقالوا له : يا رسول الله، لبثت عنَّا الليلة أكثر مما كنت تلبث، فقال: « نعم، طرأ عليّ حزبي من القرآن فكرهت أن أخرج من المسجد حتى أقضيه »[10].
ولكي يقع هذا الحث النبوي مواقعه الصحيحة فلا يؤدي إلى إسراع البعض في القراءة دون تفكُّر وتفهُّم وتدبُّر كانت التوجيهات النبوية بضرورة التركيز وجمع العقل مع التلاوة، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : « إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدر ما يقول، فلينصرف فليضطجع » [11].
وقوله لعبد الله بن عمرو بن العاص وهو يوضح له سبب نهيه عن قراءة القرآن في أقل من ثلاثة أيام : « لا يفقهه من يقرؤه في أقل من ثلاث »[12].
وعندما نزلت آيات سورة آل عمران ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران : 190].قال صلى الله عليه وسلم « ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر فيها » [13].
لا بديل عن القرآن:
من هنا نقول بأننا إذا ما أردنا بناء القاعدة الإيمانية باتساعها في جميع مشاعر القلب فلابد من العودة الصحيحة إلى القرآن، وإعطائه وقتًا معتبرًا من يومنا، وأن نُداوم على ذلك كل يوم .. نقرؤه بتدبر وترتيل وصوت حزين، فإن لم نفعل ذلك فلا نلومن إلا أنفسنا عندما نُفاجأ بعد الموت بأنه كان بين أيدينا كنز عظيم، فهجرناه بمحض إرادتنا، وقد كان بإمكاننا من خلال حُسن التعامل معه أن نقترب أكثر وأكثر من الله عز وجل ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾ [الأنعام : 104].
[1] حديث صحيح : أخرجه أحمد (4/283، رقم 18517)، وأبو داود (2/74، رقم 1468)، والنسائي (2/179، رقم 1015)، وابن ماجه (1/426، رقم 1342) وغيرهم، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع ( 3574 – 3575 ). [2] أخرجه البخاري (6/2737، رقم 7089). [3] أخرجه أبو داود ( 1/548 برقم 1473 )، وقال الشيخ الألباني رحمه الله : حسن صحيح. [4] فتح الباري ( 9/72). [5] التعبير القرآني والدلالة النفسية، لعبد الله الجيوسي ص ( 164، 165 ) باختصار وتصرف يسير، دار الغوثاني – سوريا. [6] المصدر السابق ص 68 . [7] فضائل القرآن لابن كثير. [8] أخرجه البخاري (4/1921، رقم 4746)، ومسلم (1/545، رقم 791). [9] حديث صحيح : أخرجه أحمد (3/428، رقم 15568)، وأبو يعلى (3/88، رقم 1518)، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة. [10] حديث حسن : أخرجه أبو داود (2/55، رقم 1393)، وابن ماجه (1/427، رقم 1345)، و أحمد (4/9، رقم 16211) حسنه الحافظ العراقي في “تخريج الإحياء” (1/276) والحافظ ابن حجر كما في “الفتوحات” لابن علان (3/229). [11] أخرجه مسلم (1/543، رقم 787). [12] حديث صحيح : أخرجه أحمد (11/104، برقم 6546)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع، حديث رقم ( 1157 ). [13] حديث صحيح : أخرجه ابن حبان في صحيحه ( 2/386، برقم 620 )، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 68.