تتكون العملية التربوية من ثلاثة عناصر رئيسة تهدف إلى تغيير الفرد (المُتلقي) هذه العناصر هي: الموجه التربوي، والمنهج، والبيئة أو الوسط المحيط بالفرد..
هذه العناصر الثلاثة تعمل عملها في السنوات الخمس الأولى للطفل ويكون بطلَها الأبوان (الموجه التربوي) – كما أسلفنا – وكلما زاد العمر يقل الانبهار بالأشخاص، وذلك لامتلاء المحتوى التكويني بالمعتقدات والتصورات التي استقبلها الفرد من أبويه ومن الوسط المحيط به.
فإذا ما تجاوز الفرد مرحلة المراهقة فإن أمر تغييره من الصعوبة بمكان لأن محتواه التكويني شبه مكتمل، بل قد بدأ في التصلب والرسوخ.
لذلك فلو تربى فرد ما على الشُح والحرص على المال من خلال نشأته الأولى والوسط المحيط به؛ فإن من الصعب تغيير تعامله مع المال بعد سن المراهقة، حتى ولو قام على أمر تربيته أفضل المربين – إلا من شاء الله – لأن الأمر أكبر منه بكثير، فلقد تشرَّب الفرد حب المال والحرص عليه، وأصبح لهذا المعنى جذور عميقة في ذاته..
كل ما يمكن أن يفعله الموجه التربوي هو أن يجعله يقتنع بأهمية الإنفاق في سبيل الله، ويُحسن أداءه الشكلي في بعض المواقف، لكن تبقى الممارسة الحياتية اليومية كما هي، بل في الغالب يرى هذا الشخص في نفسه أنه غير شحيح أو حريص على المال، بل يعتبر نفسه عكس ذلك ويبرر تصرفاته بأنها من باب الاقتصاد في المعيشة ووضع كل درهم في مكانه الصحيح {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11، 12].
ومما يدعو للأسف أنه كلما جلس البعض لتشخيص الداء والإجابة عن السؤال الذي يتردد كثيرا وهو: لماذا لا يتغير حال الكثير من الأفراد على الرغم من الجهد الكبير الذي يبذل معهم؟… تجد أنهم يتوجهون باللائمة على الموجه التربوي وتقصيره، وأن الحل ينبغي أن يكون في اتجاه تقويته وتأهيله..
بلا شك فإن هذا اتجاه جيد لكنه لن يجدي نفعا بمفرده، وبدون وجود القوة الجبارة المزلزلة.
فإن كنت في شك من هذا فأجب عن هذا السؤال: هل من الممكن أن ينجح تلميذ في الصف الأول الابتدائي – مهما كان نبوغه – في أن يقوم بتدريس مادة الفيزياء لطلاب الدراسات العليا في كلية العلوم؟!
إنه نفس الأمر – بل أشد – عندما نطلب من شخص أيا كان مستواه أن يؤثر في الصخور الصلبة العميقة الجذور في ذات أي فرد، ويغيرها على أساس الإسلام ومعانيه العظيمة.
.. نعم، قد يغير في المساحة الضئيلة المتبقية في محتواه التكويني، ولكن كم تبلغ نسبة هذه المساحة بالمقارنة بما تم تكوينه في بنية شخصيته الأساسية.
ناهيك عن تعذر وجود الموجه التربوي الميداني القدوة في ظل ظروف الحياة الراهنة، ولو توفر للقليل فلن يتوفر للكثير..
ولو تم – من الناحية الافتراضية – إعداد موجهين تربويين أكفاء يستوعبون جميع الأفراد، وعادت الأمة إلى صحتها في هذه الآونة، وتحقق وعد الله لها بتغيير حالها إلى الأحسن، فماذا سيحدث بعد وفاة هؤلاء المربين.
سيحدث كما حدث في المغرب بعد وفاة جيل المربين الذين أسسوا – بعون الله – دولة المرابطين حيث سقطت الدولة وانهارت، وكما حدث في تجارب كثيرة عندما انتفض المسلمون تجاه قضية (ما) كاحتلال بيت المقدس أيام الحملات الصليبية، فإذا ما انتهت القضية وتحررت القدس، عادت الأمة إلى ما كانت عليه، واندفعت الأجيال اللاحقة نحو الدنيا فيزداد المرض، وتدخل الأمة في دائرة الغضب الإلهي فيسلط الله عليها الذل والهوان..
هل نريد شحذ الهمم، واستنفار الجهود التربوية التي تحقق التغيير في جيل من الأجيال فتتحسن أحوال الأمة نسبيا، وتحل بعض مشكلاتها، ثم تعود الأمور إلى ما كانت عليه في الجيل الثاني والثالث بعد وفاة جيل الموجهين التربويين ؟!
هذا لو افترضنا أنه يمكن للموجهين التربويين أن يحدثوا تغييرا في أنفسهم أو في الآخرين في ظل امتلاء وتجذر محتواهم التكويني.
أم ترانا نريد تغييرا تمليه الأحداث والقوارع التي تمر بالأمة، فإذا انجلت تلك الأحداث عاد الناس إلى سابق عهدهم؟!
القوة المزلزلة:
إن الأمة مريضة بحب الدنيا، والشح المطاع، والهوى المتبع، والإعجاب بالنفس، ولن يصلح الله حالنا إلا إذا غيرنا ما بأنفسنا.. وأداة هذا التغيير الرئيسة هي (التربية).
ولا يمكن أن تنجح عملية التربية في أداء مهمتها بسبب وجود العوائق والتحديات التي تم ذكرها، والتي يقف على رأسها تجذر الشح المطاع والإعجاب بالنفس في ذات الفرد.
والحل الوحيد لهذه الإشكالية هو البحث عن قوة خارقة تقوم بإحداث الزلزلة في كينونة الإنسان ومحتواه التكويني.
فإن قلت: وهل توجد قوة بهذه الصفات لا نعرفها؟!
.. نعم، هناك قوة بهذه الصفات توجد بيننا ولا نعرف قدرها ولا قيمتها.. إنها قوة تأثير “القرآن” الجبارة.
.. هذه القوة لا يوجد لها مثيل على وجه الأرض، لكن الله عز وجل جعل مجال عملها الرئيس هو قلب وعقل ونفس الإنسان..
فلو سُمح لهذه القوة أن تتوجه إلى جبل لحطمته {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21].
ولو سُمح لهذه القوة أن تُحرك الجبال من مكانها وتسيرها لفعلت – بإذن الله – ..
ولو سمح لهذه القوة أن تُقطع الأرض لقطّعتها {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد: 31]، وجواب الشرط في الآية محذوف وتقديره: لكان هذا القرآن.
فقوة القرآن العظيم لا تضاهيها قوة على وجه الأرض.. هذه القوة الجبارة المزلزلة أودعها الله فيه لكي تصبح معجزته هي أعظم معجزة نزلت من السماء..
أعظم من معجزة موسى وعيسى وصالح عليهم السلام ” متفق عليه”
وهي معجزة باقية ببقاء القرآن إلى يوم القيامة، ومجال عملها الأساس هو كينونة الإنسان.. فإذا ما تم تسليطها عليه؛ فإنها تحطم الصخور الصلبة في محتواه التكويني.. تحطم التصورات والمعتقدات الخاطئة، وتحرره من أسر أغلاله، وتعيد صياغته من جديد عبدا صالحا مُصلحا..
هذا القرآن هو الذي أعاد صياغة جيل الصحابة وصنع منهم ذلك الجيل الفريد..
.. وهذا القرآن هو المرشح الوحيد الذي يمكنه – بإذن الله – بناء الأمة من جديد وإعادتها إلى صحتها وعافيتها.
وضوح وصراحة:
من هنا نعلنها بوضوح وصراحة أنه لا يمكن أن يتم التغيير للفرد بصورة حقيقية، وعميقة، ومتوازنة، ومتكاملة، إلا بدخول قوة القرآن إلى ذات الإنسان، وأية وسيلة أخرى – مع أهميتها – إلا أنها لا يمكنها أن تفعل ما يفعله القرآن ” وغني عن البيان أن الكلام عن القرآن يشمل السنة النبوية بالتبعية، فالسنة شارحة للقرآن، مبينة لما أُجمل فيه.
..نعم، يمكن للوسائل الأخرى أن تكون وسائل إضافية تؤكد معاني القرآن وتشرح تطبيقاته، ولكنها بمفردها – بدون المعجزة التأثيرية للقرآن – لا تُحدث التغيير المنشود.. أتدري أخي لماذا؟
لأن الذي أنزل القرآن هو الذي خلقنا ويعلم سرائرنا ومشكلاتنا وما نحتاج إليه.
.. الذي أنزله هو رب العالمين، الذي يقوم على أمر تربيتهم وتعاهدهم بما يصلحهم {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفرقان: 6].
يقول سيد قطب: إن الناس يخسرون الخسارة التي لا يعارضها شيء بالانصراف عن هذا القرآن، وإن الآية الواحدة لتصنع أحيانا في النفس حين تستمع لها وتنصت أعاجيب من الانفعال والتأثر والاستجابة .
وخلاصة القول أنه لن يتغير الفرد ولا الأمة ولن ينصلح حالها إلا إذا دخل القرآن بقوته المزلزلة إلى ذات الإنسان، وتم التعامل معه باعتباره الوسيلة المتفردة للتربية.