الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله،
وبعد:
فيأخي المُربِّي: إن توليك مسئولية تربية من معك هو بمثابة عقد بينك وبينهم، تُمَثِّل أنت فيه “الطرف الأول”، وهم يُمثِّلون الطرف الثاني، والشاهد على تنفيذه هو الله عز وجل {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج: 9].
ولأن الحديث هنا يتوجَّه إليك، فسيكون التذكير – بعون الله – في هذه الأسطر ببعض البنود التي تخصك.
ومن أهم تلك البنود: ما يتناول طبيعة وظيفتك معهم، ألا وهي: قيامك بالتوجيه والإشراف على عملية التغيير الإيجابي التي ينبغي أن تتم فيهم طيلة فترة وجودك معهم، وذلك من خلال إدارتك التربوية الصحيحة والهادفة للمناشط والوسائل المتنوعة التي يقومون بها.
.. أخي: ضع نصب عينيك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].
وذكر نفسك دائمًا بأن مسئوليتك الأولى مع إخوانك هي الأخذ بأيديهم، والارتفاع بمستواهم في جوانب التربية المختلفة (المعرفية-الإيمانية- النفسية- السلوكية)، وذكرها كذلك بأن معيار الإنجاز الصحيح لعملك يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمقدار التغيير الذي حدث فيهم، وليس بحجم الوسائل والمناشط الدعوية التي شاركوا فيها.
عيونهم معقودة عليك:
أقول لنفسي ولك – أخي -: إن عيون إخوانك معقودة عليك فلا تكن فتنة لهم، وتذكر أن منهم من يأخذ دينه منك، فإن أنت قصَّرت في أداء بعض الواجبات قصَّروا، وإن تساهلت – فيما لا ينبغي التساهل فيه – : تساهلوا، وتذكر أن الدليل بالفعل أرشد وأقوى من الدليل بالقول، وكما قيل: ” إذا أردت أن تكون إمامي فكن أمامي”.
.. واعلم – أيها الحبيب – أن الثقة تُبنى ولا تُمنح، وهي تُبنى في نفوس إخوانك بمواقفك الإيجابية، وأفعالك الحسنة، ودوام عطائك، وتواضعك، ومصداقيتك، فاجتهد في تحقيق ذلك في نفسك، وتذكر دائمًا بأن هناك العديد من إخوانك يرون الدعوة ويُقَيِّمونها من خلال أدائك، فاتق الله في دعوتك.
لا تكن كالشمعة:
أخي المُربي: إن العامل الأساس لنجاحك في التأثير الإيجابي في إخوانك – بعد توفيق الله ومعونته – هو تطبيقك أنت أولًا، وتأثرك وانفعالك مع ما تريد أن تطالبهم به، فاجتهد في ذلك، ولا تتذرع بكثرة المشاغل وضيق الأوقات، فلا عذر لأحد في ترك نفسه بدون زاد مستمر، وتذكر قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح: 7]، أي إذا فرغت من الدعوة والجهاد فانصب للعبادة، ويكفيك قوله صلى الله عليه وسلم: “مثل الذي يُعلِّم الناس الخير وينسى نفسه، مثل الفتيلة، تُضيئ للناس وتحرق نفسها”[1].
التواضع.. التواضع:
أُذكِّر نفسي وإياك أخي الحبيب بضرورة تربية أنفسنا على التواضع، ومن أهم صوره التي ينبغي أن تتمثل في المُربي: عدم إحساسه بأنه مميز على إخوانه بتلك المكانة، حتى لا ينعكس ذلك على طريقة تعامله معهم من خلال حرصه على أن يكون له وضع خاص، ومعاملة خاصة، ومميزات خاصة.
بل عليه أن يربي نفسه على أنه أقل من إخوانه وأنهم جميعًا أفضل منه، ولولا التكليف ما تصدَّر..، فإن فعل ذلك فسيَسهُل عليه – بعون الله – التعامل معهم، وجمع قلوبهم، وسيضع نفسه دائمًا مكانهم إذا ما أراد معاتبتهم على شيء قصَّروا في أدائه، وسيكون حريصًا على سماع نصائحهم له، وسيستقبلها بصدر رحب، وسيعتذر لهم إن أخطأ في حقِّهم أو تأخر عنهم، ولن يستحي أن يقول: “لا أعلم” حين يُسأل عن أمر يجهله، ولن يستخدم سلطته عليهم إلا في أضيق الحدود.
الصورة القديمة وظِلّها الدائم:
أخي المُربي أقول لنفسي ولك: لا تحجب أخاك عن العمل بسبب خلافه معك في الرأي، أو بسبب كلام بلغك عنه، أو خطأ أخطأه أو عثرة أوقفته قليلًا ثم استأنف سيره…
ومن منا بلا أخطاء أو عثرات؟!
ولو تم حجب كل صاحب عثرة فلن يوجد أحد يعمل للدعوة.
لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لو لم تكونوا تُذنبون، لخِفت عليكم ما هو أكبر من ذلك؛ العُجب العُجب”[2].
فهذا الحديث يجعلنا نستشعر أن الوقوع في الخطأ – سواء كان ظاهرًا أو باطنًا – أمر متوقع من البشر، والتفاوت بينهم يكون في القدرة على تجاوزه – بإذن الله – .
من هنا أقول لنفسي ولك – أخي المُربِّي -: لا تجعل الصورة القديمة لأخيك ماثلة أمام ناظريك، مُكوِّنة ظلًّا دائمًا له مهما تغيَّر وتحسَّن، ولقد حاول فرعون أن يصد نبي الله موسى – عليه السلام – عن تبليغه بالدعوة من خلال تحويل مسار الحديث نحو ماضيه – فيما يتعلق بقتله للقبطي – {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء: 18، 19].
فلم ينف موسى – عليه السلام – التهمة عن نفسه، ونبَّه فرعون إلى التغيير الذي حدث له، ووضعه الجديد الذي أكرمه الله به: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 20، 21].
لا تنس الاحتساب:
أخي: اجتهد في تجهيز نفسك معنويًّا قبل رؤية إخوانك، ومن أهم الوسائل لذلك: دعاء الله بتضرع أن يفتح عليك، ويُجري الحق على قلبك ولسانك..
ولا تنس الاحتساب، وتذكر قوله صلى الله عليه وسلم: “لا أجر لمن لا حِسبة له”[3].
وهناك وسائل عديدة من شأنها أن تستثير مشاعرك وتقوي احتسابك، منها: تذكير نفسك قبل ذهابك للقاء إخوانك بأهمية هذا العمل، وأنه يُرضي الله عز وجل، وترغيبها بالأجر الذي وعد الله به فاعله، وترهيبها من تركه، و… .
.. وأخيرًا أسأل الله لي ولك التوفيق والسداد {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32].
[1] صحيح رواه الطبراني عن أبي برزة ، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (5837). [2] حسَّنه الألباني في “السلسلة الصحيحة”. [3] حسن: أخرجه ابن المبارك في الزهد (1/49 ، رقم 152)، وأورده الألباني في صحيح الجامع برقم (2415).