الكاتب: أبو الحسن الندوي
تأمل في سورة الفاتحة التي هي الدرة الفريدة في المعجزات السماوية ، وقطعة رائعة من القطع القرآنية البيانية، لو اجتمع أذكياء العالم وأدباء الأمم ، وعلماء النفس وقادة الإصلاح ، وزعماء الروحانية ، على أن يضعوا صيغة يتفق عليها أفراد البشر على اختلاف طبقاتهم
، وعلى تنوع حاجاتهم ، وعلى تشتت خواطرهم يتقدمون بها أمام ربهم، ويتعبدون بها في صلواتهم ، تعبِّر عن ضمائرهم ومشاعرهم ، وتفي بحاجاتهم وأغراضهم ؛ لًما جاءوا بأحسن منها : ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء : 88] ، وقد قال الله تعالى : ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ﴾ [الحجر : 87].
وقد افتتحت بالحمد ، وهي الكلمة الجامعة بين الشكر والثناء ، ومن الكلمات البليغة المعجزة ، التي لا يمكن ترجمتها في لسان آخر، والحمد خير ما يبتدئ به عبد عرف نعم الله التي لا تحصى ، وعرف قدره ، وهو خير ما يفاتح به في هذا الموقف الشريف ، وفي هذا المقام المحمود.
ثم يقرر المصلي أن الرب الذي يحمده، ويقوم يستعين به ويعبده ، هو ليس رب قبيلة أو شعب ، أو أسرة أو فصيلة ، أو بلد ووطن ، إنما هو رب العالمين ، العقيدة الغريبة الثائرة ، التي تثور على جميع التقسيمات المصطنعة المزوَّرة، التي جنت على الإنسانية أكبر جناية .
ثم يذكر المصلي من صفات الرب الكريمة ، الكثيرة التي عرفها وآمن بها ، صفة الرحمة التي هي من أليق الصفات – وكلها لائقة كريمة – بهذا الموقف الذي يقفه المسلم عابدًا خاشعًا ، داعيًا مبتهلًا ، محتاجًا فقيرًا ، تائبًا آيبًا ، والمقام مقام الرجاء لا اليأس ومقام التفاؤل لا التشاؤم .
ثم يذكر ويتذكر يوم الدين ، يوم الجزاء والعقاب ، الذي يتجلى فيه مُلكُ الله وملكوته في أروع مظهر ، لا ينازعه فيه ملك زائف أو حكم عارض ﴿ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [غافر : 16]، فيجدد في نفسه الإيمان بالآخرة واستحضارها الذي هو مصدر الخوف والمراقبة ، ومصدر الرقابة على النفس والضمير ، وما أحوج المسلم – وهو الذي يستقبل الحياة المليئة بالإغراءات ، ويخوض فيها – إلى هذا الاستحضار .
ثم يُعلن في كل تأكيد عرفته لغة العرب التي نزل فيها القرآن ، واختيرت لتكون لغة الصلاة العالمية – الرسمية – وفي أبلغ أسلوب من الأساليب البيانية العربية ، أنه لا يعبد إلا الله ولا يستعين إلا به ، وما الحياة إلا عبادة واستعانة ، وبهما يتصل الإنسان بالإنسان ، والضعيف بالقوي ، والفقير بالغني ، والمحكوم بالحاكم ، والعبد بالمعبود، فإذا جُرِّدتا وأفردتا لله تعالى ، فُكَّت السلاسل والأغلال ، وحُطِّمت الأوثان والأصنام ، وبطل الشرك وزالت الفتنة ، وكان الدين كله لله . أعظم إعلان يعلنه مسلم ، وأكبر تعهد يتعهده ، فلينظر ما يقول ، وليكن على نفسه حسيبًا رقيبًا ، فكل ما يواجهه في الحياة خارج الصلاة : إما يدعوه لخضوع واستكانة وإما يدعوه لسؤال واستعانة ، وقد كفر بهما جميعًا ، وثار على كل من تزعَّمهما ، أو تظاهر بهما.
ثم يدعوه للهداية للصراط المستقيم ، التي هي أعظم حاجاته ، وأعز مطالبه ، وهي التي بُعثت لها الأنبياء ، وأُنزلت لها الصحف ، وقامت عليها سوق الجنة ، وهي التي لا قيمة لشيء إذا فُقِدت ، ولا نقص في الحياة والسعادة إذا وُجدت، وهي التي فُطرت النفوس البشرية على حبها وطلبها والبحث عنها ، والجهاد في سبيلها . ولكن الهداية لا تقوم في الخلاء ، ولا تُفهم إلا بأهلها ، ولا تتمثل إلا في أصحابها ، وأولئك هم الذين أنعم الله عليهم : ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [الأنعام : 90]. ويتبع ذلك التبرؤ من الذين جانبوا الهداية وكفروا بالنعمة واتبعوا الهوى ، وسلكوا طريق الردى ، أولئك الذين أسرفوا في العناد ، وبالغوا في الإفراط ، فحل عليهم غضب الله ، أو بالغوا في التحريف ، وتورطوا في التفريط ، فوقعوا في الضلال : ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة : 6 ، 7].
إن هذه الكلمات وحدها تكفي دلالة على كون القرآن الكريم منزلًا من الله عز وجل ، وكونه وحيًا إلهيًا ، حيث كان بالإمكان أن تستخدم للمسيحيين عشرات من كلمات اللغة العربية ، فقد كانت من سعتها بالمكان الذي كان بالإمكان أن تنطبق جميعها على المسيحيين .
غير أن الله أراد فرقًا واضحًا مكشوفًا بينهم وبين اليهود ، إذ أطلق على اليهود : ﴿ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ﴾، فمن قرأ تاريخهم شهد في ضوء التاريخ وفي ضوء اعترافاتهم أنفسهم ، ونظرًا للأثر السلبي التخريبي الذي تركوه على الأخلاقيات والاتجاهات والممارسات البشرية ، والمجتمع البشري ، ونظرًا لما عاملهم به الله عز وجل ، والعصيان والبغي الذين تميزوا بهما عبر التاريخ ، وحُرِموا من أجله نصر الله وعونه ، بأنه لا تنطبق عليهم كلمةٌ انطباق ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ﴾ .
أما من درس تاريخ المسيحيين فإنه يشهد بأنه لا تنطبق عليهم كلمة مثل انطباق ﴿ الضَّالِّين ) فقد كان شأنهم شأن سالك للطريق ، يترك الطريق المستقيم المؤدي إلى غايته ، ويأخذ طريقًا معاكسًا يسلك به إلى الوراء ، ولا يزال يواصل السير عليه فيزداد بعدًا على بُعد ، عن غايته المتوخاة .