﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [الزمر: 23].. (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الحشر:21].. ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا﴾ [الرعد:31 ].
قرأتُ هذه الآيات الكريمة فسبحتُ في أخيلةٍ علويةٍ، وتداعت المعاني بعضها إثر بعض؛ للكشف عن أثر هذا القرآن العظيم في النفوس والأرواح، لا بل في الجمادات ومختلف أنواع العوالم والكائنات.
عن أسيد بن حضير قال بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة، وفرسه مربوطة عنده، إذ جالت الفرس فسكت فسكتت، فقرأ فجالت الفرس، فسكت وسكتت الفرس، ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف، وكان ابنه يحيى قريبا منها، فأشفق أن تصيبه فلما اجتره رفع رأسه إلى السماء، حتى ما يراها، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ يا ابن حضير، اقرأ يا ابن حضير، قال: فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى، وكان منها قريبا، فرفعت رأسي فانصرفت إليه، فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها، قال: «وتدري ما ذاك؟»، قال: لا، قال: «تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها، لا تتوارى منهم»[1].
ولقد سمعتْ الجن آياتِ هذا القرآن الكريم فلم تتمالك نفسها أن قالت: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾ [الجن :1-2]، وسمع عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- رجلاً يقرأ سورة الطور فغُشي عليه وحُمل مريضًا إلى بيته وأخذ الناس يعودونه شهرًا؛ تأثرًا بما سمع[2].
وجاء عتبة بن ربيعة إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يفاوضه في أمر رسالته ويعرِض عليه المال والجاه والملك والسلطان ليدعها؛ فأجابه الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- بقول الله تبارك وتعالى: ﴿حم (1) تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ﴾ [فصلت:1-4] إلى أن وصل إلى قوله تعالى ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُود﴾ [فصلت: 13]، فرجع عتبة إلى قومه ترجف بوادره، حتى قال قائلهم: لقد رجع إليكم أبو الوليد بوجهٍ غير الوجه الذي ذهب به، ثم أقبل عليهم يقول: «والله، لقد سمعتُ كلامًا ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما يقول هذا بشر»[3]..
وهكذا يفعل القرآن فعل السحر الحلال في الملائكة المقربين والجن والمؤمنين والكافرين، فيؤثر في كلِّ موجودٍ، ويظل هكذا معجزةَ الوجود وآية الخلود.
وهل تغيَّرت الأمة العربية في أنفسها وأوضاعها ومسالكها وطباعها بغير هذا القرآن الذي قادها إلى ما لم تكن تعرف، وجمعها على ما لم تألف حتى صارت آيةً بين الأمم ومعجزةً بين الشعوب.
ولقد ألمَّ الرافعي- رحمه الله- بهذا المعنى إلمامةً كريمةً، صاغها قلمه الملهم في هذه الكلمات:
«وأنت إذا تدبَّرت هذه القوة الروحية في آداب القرآن الكريم، واعتبرتها بمأتاها في الطباع ومساغها إلى النفوس، واشتمالها على سنن الفطرة الإنسانية، فإنك تتبين من جملتها تفصيل تلك المعجزة الاجتماعية التي نهض بها أولئك العرب، فنفضوا رمال الصحراء على أشعة الشمس في هذا الشرق كله، فحيثما استقرت منها ذرة رفع وراءها عربي، وليس من دليلٍ في التاريخ على أن هذه الأرض شهدت من خلق الله جيلاً اجتماعيًّا كذلك الجيل الأول في صدر الإسلام حين كان القرآن غضًّا طريًّا، وكانت الفطرة الدينية مواتية، وكانت النفوس مستجيبة على أنه جيلٌ نَاقَضَ طباعه، وخَالَفَ عاداته، وخَرَجَ مما ألف، وخلق على الكبر خلقًا جديدًا.
ومع ذلك فإن الفلسفة كلها والتجارب جميعًا والعلوم قاطبةً لم تنشئ جيلاً من الناس ولا جماعةً من الجيل ولا فئةً من الجماعة كالذي أخرجته آداب القرآن وأخلاقه من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في علوِّ النفس، وصفاء الطبع، ورقة الجانب، وبسط الجناح، ورجاحة اليقين، وتمكين الإيمان إلى سلامة القلب، وانفساح الصدر، ونقاء الدخلة، وانطواء الضمير على أطهر ما عسى أن يكون في الإنسان من طهارة الخلق، ثم العفة في مذاهب الفضيلة من حسن العصمة، وشدة الأمانة، وإقامة العدل، والذلة للحق، وهلم إلى أن نستوفي الباب كله، وهذا على كثرةِ عديدهم، وترادف تلك الآداب فيهم وتظاهرها على جميعهم واستقامتهم لها بأنفسهم.
وإنما يكون مثل الرجل الواحد منهم في الدهر الطويل وفي الجيل بعد الجيل، وإنه على ذلك ليكون في الأرض في درّة الفلك، بل يحمل هذه الأرض مثال السماء؛ لأنه في نفسه مثال الملك» ا. هـ.
ألا إنَّ هذا القرآن بين أيديكم كما كان بين أيديهم، تسمعون إليه كما كانوا يستمعون، وتقرءونه كما كانوا يقرءون، لم ينقص منه حرف، ولم تضع منه آية، ولم تتبدل فيه كلمة ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9].. فما باله لم يفعل بكم ما فعل بهم، ولم يُغيِّر منكم ما غيَّر من أخلاقهم وأوضاعهم وطباعهم؟!
ذلك لأنهم تلقَّوه مؤمنين، وقرؤوه متدبرين، واستمعوا إليه طائعين، وأقبلوا عليه منفذين، وأسلموه زمام النفوس والأرواح، وهو كيمياؤه التي لا تستعصي على فعلها العناصر، ولا يقف أمام فعلها جاحد أو مكابر، فأنشأهم قومًا آخرين، وجعلهم حجته على العالمين.
وتستطيعون أن تكونوا كذلك إذا آمنتم بالقرآن إيمانهم، ونهجتم به في أنفسكم وأوضاعكم نهجهم؛ فحللتم حلاله وحرمتم حرامه، وأنفذتم أحكامه وتدبَّرتم آياته، وسرتم بتوجيهاته، وكان هواكم تبعًا لما جاء به.. فهل أنتم فاعلون؟!
[1] صحيح البخاري (6/ 190) [2] ذكره ابن رجب الحنبلي في كتاب التخويف من النار 1/30 دمشق 1399هـ الأولى. [3] انظر: السيرة النبوية لابن هشام 3/132، وذكره أحمد بن الحسين البيهقي في كتاب الاعتقاد 1/267، وتفسير القرطبي 15/339.