الإيمان والحياة

الإيمان والخُلُق العظيم (العفو)

الحياة كي تستمر ، والعلاقات كي تتواصل بين الناس ، كان لابد لخلق العفو أن يتأصل فيما بينهم ، فما دامت هناك حياة ، وما دام هناك تعامل ومخالطة فيما بين الناس ، فلابد إذن من الهفوة والخطأ والنسيان ، وضياع بعض الحقوق ، وأحياناً فقدانها بالكلية ، ومن خلال خلق العفو يمكن لعلاقات الإنسان أن تستمر ، وتزداد تعاملاته مع الآخرين.

فالعفو يُعتبر بحق من أعظم الصفات التي يجب أن يتحلى بها الناس.

لماذا العفو من أخلاق الكبار؟
لأن العفو يعني التنازل الكامل عن حق الرد ممن أساء ، وتجاوز حدوده.
لأن العفو يعني قوة نفسية عظيمة وقدرة كبيرة على كظم الغيظ تجاه من أساء.
ولأن العفو يعني مجاهدة النفس وإحباط دوافع التشفي ورغبات الانتقام بداخلها.
ولأن العفو يعني المسامحة مع القدرة على النيل ممن أساء وأخطأ ، بل أحياناً مكافأته.

نفوس نقية :
خلق العفو يُدلل على نقاء سريرة صاحبه ، والكبار نفوسهم نقية ، وقلوبهم طاهرة ، لا تحمل غلاً يدفع على الانتقام ، ولا قسوة تدفع للتشفي ، إنها قلوب عامرة بالإيمان طامعة فيما عند الله من الأجر والثواب، لا يعنيهم حسابات البشر ولا اتهامات البشر من الاتصاف بالجبن أو الخوف أو البَله كما يصفون صاحب هذا الخلق أحياناً.
فالكبار يقتدون في ذلك بيوسف عليه السلام الذي ظلمه إخوته بل وتآمروا على قتله ، وقد كان لهذا الأمر ما بعده من حرمانه من حنان الأم وعطف الأب ، والوحدة والغربة ومصارعة أهوال الحياة وهو وحيد فريد وفي سن صغيرة ، فلاقى العنت ، وعوقب وسُجن ظلماً وعدواناً .
حتى منَّ الله عليه وآتاه النبوة والعلم والملك فأصبح وزيراً لملك مصر وجاء الله بإخوته ليشتروا الغذاء لهم ولأهليهم ، فكانوا على ظلمهم القديم فـ”قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ” فلم يأخذ على أيديهم ولم ينتقم ، ولم يتذكر ظلمهم القديم أو الحديث ، بل تعالى بنفسه عن الانتقام ، وترفع بخلقه عن التشفي وكظم غيظه ” فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ”[يوسف:77]
وما إن تمكن منهم في نهاية الأمر ، وذكَّرهم بصنيعهم من قبل “قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ”[يوسف:89]
كان خلق العفو هو السابق ، وكان العفو مع القدرة هو الغالب وهكذا يكون الكبار ” قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ”[يوسف:92]

خلق رفيع :
يختلف الناس فيما بينهم ، فتتشاحن قلوبهم ، وتحمل نفوسهم مشاعر الكره والبغض ، وقد يكون هؤلاء المختلفين إخواناً في النسب والدم ، فتمنعهم المشاحنة من المصالحة والتقارب بل قد يدفعهم هذا الخلاف إلى انتهاز الفرص للكيد والمكر لبعضهم ، حتى وجدنا هذه القسوة وتلك الضغينة – التي ملأت القلوب كرهاً وبغضاً- قد منعت الأخ من زيارة أخيه حتى في لحظات المرض الأخيرة على فراش الموت ، أو حتى تشييع جنازته.
وقد تمتد هذه المعاملة القاسية إلى ما بعد الممات فتصل إلى أبنائهم وأحفادهم ، فتقطع بذلك الأرحام ولا ترعى حقوق القرابة ، فهؤلاء هم صغار النفوس وإن كبرت أعمارهم أو طالت.
أما الكبار … كبار النفوس وإن صغرت أعمارهم فالعفو أقرب إلى نفوسهم من أي شيء آخر تجاه من أخطأ في حقهم أو نال من شخصهم.
فالكبار قد جعلوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة لهم ، وعَلَماً يهتدون به ، فهو صاحب العفو الكبير عمن أساء إليه ، فها هو صلى الله عليه وسلم يعفو بعد فتح مكة عمن ظلموه وطردوه بل وتآمروا على قتله قبل أن يحاربوه ويواجهونه في المعارك ، فوقف بعد أن أظفره الله عليهم ثم قال: ” يا معشر قريش، ما ترون أنى فاعل فيكم ؟ ” قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم. قال: ” اذهبوا فأنتم الطلقاء “1.

حتى مع الكارهين:
إن هناك أناساً لا تصفوا قلوبهم أبداً تجاه من عادوهم يوماً من الأيام ، ولا يستطيعون نسيان أخطائهم في حقهم وإن مر عليها زمن طويل ، فتجدهم مثلا يقولون لمن خاصموهم واختلفوا معهم في لحظات الصلح والعتاب : ما زالت نار العداوة متقدة في قلبي وإن صالحتك ، ولا يزال في نفسي شيء مما فعلت بي.
أما أصحاب النفوس الكبيرة فهؤلاء لا أقول ينسون الماضي ، بل يمحونه من ذاكرتهم متى كان للصلح مكان ، بل ويرفعون الحرج عمن آذوهم ونالوا منهم.
فلا أحد يُنكر أن عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين كان من أشد الناس إيذاءً للنبي صلى الله
عليه وسلم ، ويكفيه أنه الذي آذى النبي في أهل بيته ونال من عائشة الطاهرة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وأحب نسائه إليه .
ولا أحد ينكر ما فعله هذا المنافق من تأليب اليهود على المسلمين وتشجيع قريش على غزو المدينة ، ولا أحد يُنكر ما قاله هذا المنافق في حق النبي صلى الله عليه وسلم”يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ”[المنافقون:8]
ولا أحد ينكر أن ما قاله وما فعله كفر يستحق عليه القتل … إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم حلم عليه ، وصبر على أفعاله طمعاً في هدايته ، بل إن ابنه عبد الله وهو صحابي جليل أتى النبي صلى الله عليه وسلم عقب موته طالباً الصفح عن أبيه ، والاستغفار له فلم يرفض له ذلك ، بل وقف يُصلي عليه ويستغفر له وهو الذي افترى عليه وآذاه أيما إيذاء …. فلا تتعجب أخي القارئ إنها أخلاق الأنبياء.

أثر كبير :
الكبار بعفوهم عن الآخرين يؤثرون فيهم ، ويملكون قلوبهم ويغيرون من سلوكهم ، يقول الحسن بن الحسن وقعت بيني وبين ابن عمي زين العابدين جفوة ، فذهبت إليه وأنا أتميز غيظاً وكان مع أصحابه في المسجد ، فما تركت شيئاً إلا قلته له ، وهو ساكت لا يتكلم ثم انصرفت.
فلما كان الليل إذا طارق على الباب يقرعه فقمت إليه لأرى من؟ فإذا زين العابدين فما شككت أنه جاء يرد إليًّ الأذى ولكنه قال : يا أخي إن كنت صادقاً فيما قلت لي ، فغفر الله لي ، وإن كنت غير صادق فغفر الله لك ثم ألقى السلام ومضى ، فلحقت به وقلت له : لا جرم، لا عدت إلى ما تكرهه فرقَّ لي وقال : وأنت في حل مما قلت لي.

استجابة سريعة:
الكبار يستجيبون للنداء الداعي للعفو والمسامحة ولا يُكابرون ، فقلوبهم لينة رحيمة ، ومتى فتح لهم باب العفو ولجوا إليه مسرعين ، مبتغين في ذلك الثواب من عند الله.
فهم لا يعفون فقط عن المسيء ، ولكنهم يُحسنون إليه ويكرمونه ويبالغون في إظهار الود له والترحيب به ، ولا يمنون بإحسانهم هذا عليه ، مقتدين بذلك بالصديق أبي بكر الذي عفا عن مسطح بن أثاثة الذي كان ينفق عليه ويُعطيه من ماله ، فلما خاض مع من خاض في حادث الإفك قرر ألا يُعطيه من ماله ، ولا يُنفق عليه ثانية ، ومع أن ذلك كان تفضلاً منه ولم يُفرضه أحد عليه ، إلا أن آيات الله تنزلت لتقوّم هذا السلوك ، فقد يكون هذا المنع جائزاً في حق العامة من الناس ، أما الكبار وأصحاب النفوس الرفيعة فالله عز وجل يُريد أن يحفظ لهم فضلهم ، ويُعلي من شأنهم ، ويُزيد من قدرهم في الدنيا والآخرة فيدعوهم إلى العفو والثبات على العطية “وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ”[النور:22]
فيأتي الرد السريع المستجيب للنداء الرباني فقال أبو بكر : والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فَرجّع إلى مِسْطَح النفقة التي كان ينفق عليه. وقال: لا أنزعها منه أبدًا1.
العفو يكون عند المقدرة :
وأعظم العفو ذلك الذي يكون عند التمكن من الخصم ، والقدرة على الانتقام والتشفي ، فالبعض اليوم قد يتظاهرون بالعفو والمسامحة عمن أساء إليهم ، أو نال منهم ، ولكنهم متى سنحت الفرصة لهم وتمكنوا من خصومهم شفوا فيهم غليلهم ، وأطفأوا نار الغل والعداوة المتقدة في صدورهم بالانتقام منهم .
على العكس تماماً من كبار النفوس الذين يعفون بأنفس راضية ، وقلوب صافية ، لا ضغينة فيها ولا حقد ولا ضيق ولا تذمر ، وهذا قمة العفو ، كما حدث مع النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول عليه الصلاة والسلام “إِنَّ رَجُلًا أَتَانِي وَأَنَا نَائِمٌ فَأَخَذَ السَّيْفَ فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي فَلَمْ أَشْعُرْ إِلَّا وَالسَّيْفُ صَلْتًا فِي يَدِهِ فَقَالَ لِي: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ ، قَالَ : “قُلْتُ اللَّهُ” ثُمَّ قَالَ فِي الثَّانِيَةِ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي قَالَ : “قُلْتُ اللَّهُ” قَالَ : فَشَامَ السَّيْفَ فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ ثُمَّ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”2

العفو ليس ضعفاً:
البعض من صغار النفوس ينظرون لمن يعفو عن الآخرين ويتسامح معهم على أنه شخص ضعيف عاجز ، وأحياناً يصفونه بالجبن والخور ، وقد يرمونه بالبَلَه.
وقد يكون هذا صحيحاً إذا صاحب ذلك جبن وخوف وهلع ممن أساء إليه ، أما إذا كان قادراً على رد الحق المغتصب ، والتمكن من المسيء المتطاول ، فإن هذا هو العفو المقصود.
يقول بن القيم رحمه الله : العفو إسقاط حقك جوداً وكرماً وإحساناً مع قدرتك على الانتقام ، فتؤثر الترك رغبة في الإحسان ومكارم الأخلاق بخلاف الذل فإن صاحبه يترك الانتقام عجزاً وخوفاً ومهانة نفس ، فهذا مذموم غير محمود ، ولعل المنتقم بالحق أحسن حالاً منه”
تشجيع قرآني:
الكبار تربوا على مائدة القرآن ، ونهلوا من معارفه ، واستقوا من قيمه وأخلاقه التي أصَّلَت في نفوسهم كل خير ، ومحت من قلوبهم كل شر،وللقرآن في التربية على هذا الخلق كلمته التي يبنيها في القلب ، ويؤصلها في النفس، ويعمق جذورها في ضمير العبد المؤمن ، فمع أن الشرع الحكيم أعطى الحق لمن ظُلم أن يدفع الظلم ويرد الإساءة إلا أنه في نفس الوقت أعطى مساحة كبيرة للعفو بل وامتدحه وقدمه على الانتقام قال تعالى”وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ”[النحل: 126]ففي هذه الآية جعل الخير في الصبر وعدم المعاقبة.
وفي آية أخرى يُقارن بين الحسنة والسيئة ، وكيف تكون المعاملة مع الآخرين ، وقدم الدفع بالتي هي أحسن مع العدو والخصيم على الرد بالإساءة يقول تعالى “وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ” [فصلت:34]
وفي آية أخرى يأمر به أمراً ، ويدعو للإعراض عن الجاهلين يقول تعالى” خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ”[النحل:199]
“وهو أن الله يأمر بمصانعة العدو الإنسي والإحسان إليه، ليرده عنه طبعُهُ الطَّيب الأصل إلى الموادة والمصافاة، ويأمر بالاستعاذة به من العدو الشيطاني لا محالة؛ إذ لا يقبل مصانعة ولا إحسانا ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم، لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم من قبل”1
وفي آية أخرى يؤكد على المعاني السابقة مبيناً كيف تكون المعاملة عند الاختصام ” وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ”[الشورى:40]
ثم يشجع على العفو ويدخر أجر من عفا عنده سبحانه وهو الكريم ” فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ”
ولاشك أن التقوى هدف الكبار ، وغاية المؤمنين ، فهي منزلة عالية ، ودرجة رفيعة بها يطمئن القلب ، وتسكن النفس ، ويهدأ البال ويرتاح ، وقد أشار الله تعالى ترغيباً وتشجيعاً لعباده أن العفو أقرب للتقوى ، وطريقاً من الطرق الموصلة إلى ذلك” وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى”[البقرة:237]
الله هو صاحب السلطان الكامل ، والقوة المطلقة ، والقدرة التي لا طاقة لأحد بها ، ولو شاء لأهلك العصاة ، وأغرق المجرمين ، وأنزل عليهم بأسه الذي لا يُرد عن القوم الكافرين ، ومع ذلك فهو يُمهلهم لعلهم يتوبون أو يرجعون ، وفي ذلك دعوة لعباده أن يعفوا فيما بينهم ، ويتسامحوا قي معاملاتهم.
يقول تعالى” إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا”[النساء:149]

حقاً إنها أخلاق الكبار:
والكبار عندما يُخطئ الآخرون في حقهم ، أو يظلمونهم ويُجيرون عليهم ، فهم لا يستحضرون مساوئهم وعيوبهم ، أو يؤججون نار الضيق في صدورهم ، أو يتربصون بهم الدوائر ، إنما يساعدون أنفسهم على التحلي بهذا الخلق العظيم ، ويجاهدونها حتى تستجيب لنداء العفو والمسامحة فيتذكرون الجوانب المضيئة في سلوك مخالفيهم ممن أساءوا في حقهم ، ويستحضرون محاسنهم وفضائلهم ، وما كان بينهم من ود وخير.
فالكبار لا يعتبرون الخطأ والتجاوز ماحياً للخير السابق ، أو ماحقاً لفضائل الناس وحسناتهم ، ولكنهم يعتبرون أن الحسنات ماحية لتلك الهنات والسقطات.

لطيفة:
ومن المعاني الجميلة التي تستشعرها في قوله تعالى “والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس” أن الناس قد يعفون ويتسامحون في وقت التهدئة ، والسكينة ، أما في حال الفتنة ، ووقت النزاع فقد تُثار النفوس ، وتتعالى الأصوات ، وتتشابك الأيادي ، وتتبادل الشتائم .
ولكن الله تعالى في هذه الآية الكريمة يمتدح الذين تحلوا بهذا الخلق العظيم وقت المحنة والبلاء ، فكظم الغيظ هو أولى درجات العفو ، والآية تحمل ثناءً خاصاً على هذا الصنف من الناس ، فالعفو الحقيقي هو ذلك الذي يكون وقت المحنة ، ووقت البلاء ، وهم في حالة الغيظ والألم من الأذى الذي لحق بهم،كما كان خلقه صلى الله عليه وسلم مع قومه وهم يؤذونه ويُعذبونه.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ :كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ”1

العزة في العفو:
ذكرنا فيما سبق أن العفو ليس دليل ضعف ، بل هو دليل على القوة والتحكم في النفس ولأن الناس قد يزهدون في العفو ، ويبتعدون عنه ، ظناً منهم في أنه يُقلل من شأنهم في نظر الناس، أو أنه يورثهم المذلة والمهانة مع من يتعاملون معهم .
وحتى لا يُساور المؤمن هذا الشك وهو يتعامل مع الناس فقد جاء الحديث على لسان النبي صلى الله عليه وسلم مؤكداً أن العزة كلها في العفو والمسامحة “مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ”1

نماذج من الكبار:
ولخلق العفو نماذج فريدة ، ومواقف عظيمة يتعجب لها الإنسان ، ولكن قد يُزال العجب ، ويُمحى وجه الغرابة عندما تعلم أن أصحابها تربوا في مدرسة النبوة الأولى ، ونهلوا من معينها الصافي.
عمر بن الخطاب:
هذه التربية العظيمة هي التي دفعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (كل أمتي مني في حِل )
عبد الله بن مسعود:
ونفس المعنى نستشعره في كلمات ابن مسعود رضي الله عنه حين جلس في السوق يشتري طعاما ، فلما أراد أن يدفع الدراهم وجدها قد سرقت ، فجعل الناس يدعون
على من أخذها ، فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه 🙁 اللهم إن كان حمله على أخذها حاجة فبارك له فيها ، وإن كان حملته جراءة على الذنب فاجعله آخر ذنوبه )
الحسن بن علي:
وقال الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما : ( لو أن رجلا شتمني في أذني هذه ، واعتذر في أذني
الأخرى ، لقبلت عذره )
جعفر الصادق:
وقال جعفر الصادق رحمه الله : ( لأن أندم على العفو عشرين مرة ، أحب إلي من أندم على
العقوبة مرة واحدة )
معاوية بن أبي سفيان:
ويقول معاوية رضي الله عنه : ( عليكم بالحلم والاحتمال حتى تمكنكم الفرصة ، فإذا أمكنتكم
فعليكم بالصفح والإفضال )
عبد الملك بن مروان:
ولما أتي عبد الملك بن مروان بأسارى ابن الأشعث في وقت الفتنة قال عبد الملك لرجاء بن حيوة: ماذا ترى ؟
قال : إن الله تعالى قد أعطاك ما تحب من الظفر فأعط الله ما يحب من العفو ، فعفا عنهم.

1 – السيرة النبوية لابن كثير ج3 570
1 – تفسير بن كثير ج6 ص 20
2 – صحيح مسلم ح رقم (4231)
1 – تفسير بن كثير
1 – صحيح البخاري ح رقم(3218)
1 – صحيح مسلم ح رقم (4689) ، وأورده الألباني في صحيح الجامع عن أبي هريرة ح رقم (5809)