التربية الإيمانية

كيف لنا أن نصل إلى الإيمان الحي

هل المطلوب لكي نتمتع بثمار الإيمان أن نؤدي الصلاة على وقتها، وأن نُطيل المكث في المسجد، ونُكثر من القيام بالأعمال الصالحة المختلفة؟

.. مع الأهمية القصوى لهذه الأعمال إلا أننا نُشاهد من يقوم بها أو ببعضها، ولا نرى آثارًا مثل التي ذُكرت سابقًا أو حتى قريبة منها، بل قد نجد العكس .. قد نجد شخصًا يحافظ على أداء الصلوات في المسجد، ويُصلي النوافل، ويُكثر من ذكر الله بلسانه، ومع ذلك تجده شديد الحرص على ماله، يحسب كل شيء بأدق تفاصيله .. يُفكر دومًا في تحصيل حقِّه أولًا قبل حقوق الآخرين، شديد التركيز مع الدنيا، إذا ذهب لشراء شيء ما تجده – في الغالب – ينتقل بين الحوانيت للبحث عن الأرخص ثمنًا، فإذا ما استقر على حانوت ما، تجده يدخل في صراع مع البائع لتخفيض الثمن إلى أقصى ما يُمكن تخفيضه.

وإذا ما كان صاحب عقار تجده يتعامل مع المستأجرين معاملة جافة غليظة، ويجتهد في التنصل من حقوقهم عليه.

قد يُعامل زوجته وأولاده معاملة حادَّة وجافة، فيُحاسبهم على كل شيء، ويُدقق معهم في كل صغيرة وكبيرة.

يُصاب بالفزع والهلع إذا ما أُصيب ماله بخسارة ولو طفيفة، أو ضاعت من بين يديه صفقة رابحة .. يحسد الآخرين على فضل الله عليهم، وفي المقابل تجده يخاف من الحسد خوفًا شديدًا، فلا يكاد يُظهر فضل ربه عليه وإن اضطره ذلك للكذب.

وليس هذا خاصًّا بالأغنياء فقط، فالفقراء ومتوسطوا الحال كذلك قد تجد فيهم بعض التناقض بين عباداتهم الظاهرة وبين سلوكياتهم ومعاملاتهم، ومن ذلك : شدة حرصهم على الدنيا، والحزن على فوات شيء يسير منها، والتلهُّف عليها، وكثرة التفكير في المستقبل.

وينكشف حجم الإيمان الضعيف أكثر وأكثر عند المساس بمصالحهم الدنيوية، فلا غضاضة من الكذب، وعدم الوفاء بالعهود والوعود إذا كان هذا سيحقق لهم نفعًا أو يصرف عنهم ضرًّا.

مما لا شك فيه أن المحافظة على أداء الصلوات من مظاهر الإيمان، ولكن عندما لا تتواكب هذه المظاهر مع هوان الدنيا في عين صاحبها، وضآلة حجمها في قلبه، فإن ذلك يُعد بمثابة مؤشر خطير لعدم تمكُّن الإيمان من قلبه، وعدم وصوله لمرحلة « استحكام اليقظة ».

فإن قلت : أليس الإيمان هو الذي دفعه للصلاة ؟!

..نعم، الذي دفعه لأداء الصلاة – بجوارحه – هو القدر المحدود من الإيمان في قلبه، وفي المقابل فإن الذي يمنعه من التفاعل معها والتأثر بها هو محدودية هذا الإيمان وعدم يقظته، والدليل على ذلك هو عدم ظهور آثار أدائه للصلاة على سلوكه بصورة ملحوظة.

ونفس الكلام ينطبق على الأخلاق والمعاملات، فإن لم يحدث تحسن فيها فإن ذلك يعني أن الإيمان لم يتحسن وإن قام المرء بأداء الكثير من صور العبادات والأعمال الصالحة.

فأين تكمن المشكلة ؟ .. أين أثر العبادة ؟

.. الإجابة عن هذه الأسئلة تدعونا لأن نتعرف أكثر على القلب وعلى الإيمان وحقيقته …

القلب والمشاعر :

الإيمان مكانه القلب وليس العقل ﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ [الحجرات : 14] .

﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ﴾ [المائدة : 41].

والقلب هو مركز الإرادة داخل الإنسان، وهو الملك على الجسد كله وما من فعل أو سلوك إرادي نقوم به إلا ويأخذ الأمر بالتنفيذ من القلب : « ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله .. ألا وهي القلب »[1].

ومن أهم خصائص القلب أنه مَجمع المشاعر داخل الإنسان .. مشاعر الحب والشوق، والرغبة والرهبة، والطمأنينة، والاشمئزاز، والجزع والهلع، والرعب، والغيظ، والرأفة والرحمة، والوجل والسكينة …

﴿ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ﴾ [الأنفال : 12] .

﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد : 28] .

﴿ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ﴾ [الزمر : 45] .

﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الفتح : 4].

﴿ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ﴾ [الحديد : 27].

﴿ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ [آل عمران : 156].

﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [الأنفال : 2].

﴿ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ﴾ [التوبة : 15].

معنى ذلك أن الدافع والمُحرك للسلوك الإرادي هي المشاعر.

الإيمان والمشاعر :

ولأن الإيمان محله القلب، والقلب هو مجمع المشاعر داخل الإنسان، فالإيمان – إذن – محله المشاعر :

  • ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ﴾ [الفتح : 4] .
  • ﴿ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ﴾ [الحج : 54] .
  • ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ [الحجرات : 7].

ومن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي تؤكد هذا المعنى :

« ثلاث من كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يُحب المرء لا يُحبُّه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يُلقى في النار »[2].

وقوله : « أوثق عُرى الإيمان : الحب في الله والبغض في الله »[3].

فالإيمان – إذن – هو الذي يوجه المشاعر، ومن ثَمَّ السلوك، مع الأخذ في الاعتبار أن الهوى أيضًا له دور بارز في توجيه المشاعر، ولكن ما هو الهوى؟

الهوى والمشاعر :

من تعريفات النفس أنها مَجمع الشهوات والغرائز داخل الإنسان، والهوى هو ما تميل إليه النفس.والنفس تهوى الراحة وتكره التكليف، تُحب الظهور والمدح، وتكره النقد والذم، تُحب الاستمتاع بالشهوات، وتضيق بمنعها، ترغب في الانتصار لرأيها، وتنفر ممن يُخالفها.

هذه الأهواء لا يُمكن التعبير عنها على أرض الواقع إلا من خلال القلب، لأنه هو مركز الإرادة، لذلك فهي تعمل على السيطرة عليه، والتمكُّن من المشاعر لتستطيع من خلالها تنفيذ ما تُريده وتهواه.

الصراع بين الإيمان والهوى:

الإيمان محله المشاعر، والهوى كذلك.والمشاعر هي الدافع الأساسي للسلوك الإرادي، فلمن تكون الغلبة على المشاعر ؟ ومن الذي يستطيع الاستئثار بها : الإيمان أم الهوى؟

الإجابة عن هذا السؤال يُحددها قوة أحدهما عند القيام بالأعمال المختلفة، فعلى سبيل المثال:

عندما يستيقظ المرء وقت  آذان الفجر يحدث صراع داخلي بين إيمانه بالله الذي يُملي عليه الامتثال لأوامره بالقيام للصلاة، وبين هوى نفسه وحبها للراحة والنوم، فإن كان الإيمان وقتها أقوى من الهوى فمن المتوقع أن يقوم المرء من فراشه، وينطلق للصلاة، وإن كان الهوى هو الأقوى كان الإخلاد إلى النوم هو القرار النهائي، ويؤكد هذا قوله تعالى : ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [القصص : 50].

هل الإيمان هو المعرفة؟

يُعرِّف البعض الإيمان بأنه هو المعرفة، معرفة أن الله عز وجل هو رب  كل شيء، وأنه هو الخالق، القدير، الرزاق … .

ولكننا نرى أُناسا يُقرُّون بربوبية الله ولكنَّهم لا يتوجهون إليه بالعبادة، فلو كان الإيمان هو مجرد المعرفة لدفعتهم تلك المعرفة إلى التوجه بالعبادة نحوه، وخشيته وتقواه والتوكل عليه.

ولقد قصَّ القرآن علينا نماذج لهؤلاء : ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ [يونس : 31].

﴿ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾  [المؤمنون : 84 – 87] .

فالمشركون يعرفون أن الله هو ربُّ كل شيء، ويُقرُّون بألسنتهم بهذه الحقيقة لكنهم – مع ذلك – لا يعبدونه .. لماذا؟!

لأن هذه المعرفة لم يصل مدلولها إلى القلب فتصبح إيمانًا، والدليل على ذلك هو عدم تنفيذهم لمقتضيات هذه المعرفة، فلو كانت معرفة إيمانية لدفعتهم إلى التوجه إلى الله بالعبادة، أما المعرفة العقلية البحتة فلن تكون دافعًا للسلوك إلا إذا انتقل مدلولها إلى القلب، وامتزجت بالمشاعر، وأصبحت إيمانًا راسخًا فيها.

فإن كان الأمر كذلك، فما هو الإيمان؟

الإيمان بالشيء هو التصديق به ﴿ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ﴾ [المعارج : 26] .

والإيمان محله القلب … فكيف يكون تصديق القلب للشيء ؟

تصديق القلب للشيء هو اطمئنانه له، وثقته فيه، وعدم الارتياب أو الشك فيه ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ﴾ [الحجرات : 15] .

انظر إلى قول اليهود كما أخبرنا القرآن ﴿ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾ [آل عمران : 73].أي : لا تثقوا ولا تطمئنوا ولا تُصدِّقوا إلا من تبِع دينكم .

وعدم الإيمان بالشيء هو رفضه وإنكاره والتشكيك فيه ﴿ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ﴾ [النحل : 22] .

﴿ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ﴾ [التوبة : 45] .

فأول وأهم مرحلة للانقياد للشيء هي الإيمان به ( أو الاطمئنان له، والثقة فيه )، فالذي يأخذ دواء ما لابد وأن يكون قد اطمأن له بقلبه، وألَّا يكون شاكًّا ولا مُرتابًا فيه.

والذي يجد أمامه عدة طرق، ولا يدري أيهم يوصله إلى مقصوده فإنه يظل يسأل ويتقصى حتى تزول حيرته، ويطمئن إلى الطريق الصحيح، فيتوجه إليه، فإن لم يترجح لديه طريق، وسار في أحدهم من باب التجربة، تجده شاكًّا مرتابًا متحيرًا أثناء سيره، ويظل كذلك حتى يجد علامة أو آية تُذهب حيرته، وتبعث الإيمان والاطمئنان إلى قلبه بأن ما يسير فيه هو الطريق الصحيح .. تأمل قول الحواريين وهم يطلبون من عيسى بن مريم عليه السلام نزول مائدة من السماء عليهم ﴿ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا ﴾ [المائدة : 113].

من هنا نقول بأن الإيمان هو تصديق القلب واطمئنانه وثقته في الفكرة التي تُطرح على العقل .

هذه الثقة تبدأ صغيرة وتنمو إذا ما تم تغذيتها حتى تصل إلى ثقة مطلقة بلا أدنى ريب أو شك .

الفارق بين القناعة العقلية بالفكرة وبين الإيمان بها :

قد تُناقش شخصًا ما في أمر من الأمور فيقتنع أمامك بما تقول لكنه لا يفعل مقتضيات هذا الاقتناع، كأن تُناقشه – مثلًا – في ضرورة وأهمية مقاطعة منتجات الدول التي أساءت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وتعرفه كيف يُمكن لهذه المقاطعة أن تؤثر على هذه الدول، فيُبدي أمامك اقتناعه بما تقول بعد سلسلة من الاعتراضات والمناقشات، وبعد ذلك تجده لا يُقاطع تلك المنتجات، فما السبب في ذلك؟

السبب أنه وإن كان قد اقتنع بعقله إلَّا أن قلبه لم يطمئن اطمئنانًا كاملًا لما تقول، أي أنه لم يؤمن بما تقول ﴿ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [المائدة : 41].

ومما لا شك فيه أن بداية الإيمان بالشيء هو الإقرار العقلي به، ولكن إن توقف هذا الإقرار عند حدود العقل، ولم يمتزج بالمشاعر، ولم تحدث الطمأنينة والثقة فيه، فقد ابتعد عن مفهوم الإيمان، ومن ثَمَّ فلن تظهر له ثمرة في السلوك، وهناك أمثلة كثيرة تؤكد هذا المعنى:

فدراسة أبحاث القضاء والقدر من كتب العقيدة وعلم الكلام، قد تصل بالمرء إلى الاقتناع بحقيقة القضاء والقدر، إلا أنها – في الغالب – لا تُنشئ إيمانًا حقيقيًّا به بحيث تظهر آثاره عند مواجهة الأقدار المؤلمة، وسبب ذلك أن أغلب هذه الكتب تُخاطب الفكر فقط، ولا تؤثر في المشاعر، وفي المقابل لك أن تقرأ القرآن وتنظر إلى طريقته في إقناع العقل وإلهاب المشاعر فيمتزج الفكر بالعاطفة وينشأ الإيمان – إن انتفت الموانع [4]، ومثال ذلك قوله تعالى : ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة : 23].

فهذا خطاب يُناقش العقل بالحجة ويتحدَّاه حتى يُقر بالعجز فيقتنع بصدق الرسالة وأنها من عند الله، لكن الأمر لا يتوقف عند ذلك، بل نجد الآيات التي تتلوها تُخاطب المشاعر حتى يحدث المزج بين الفكر والعاطفة ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾[البقرة : 24].

وخلاصة القول في هذه المسألة بأنه ليست العبرة فقط بتصديق العقل واقتناعه بالشيء الذي يراه أو يسمع عنه، بل لابد من أن يُصاحب ذلك تصديق قلبي، أي : اطمئنان وثقة ورضا بهذه المعلومة.

انظر إلى هذا التسلسل الواضح للسلوك الإرادي ( إصغاء من العقل للمعلومة، ثم تصديق واقتناع بها ثم طمأنينة ورضى قلبي يدفع للسلوك ) وذلك في قوله تعالى : ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ﴾ [الأنعام : 112، 113]. 


[1] جزء من حديث متفق عليه :  أخرجه البخاري (1/28، رقم 52)، ومسلم (3/1219، رقم 1599).

[2]  متفق عليه، أخرجه البخاري (1 / 14، برقم 16)، ومسلم (1/67، رقم 43) .

[3]  حديث صحيح : أخرجه الطبراني (11/215، رقم 11537).والبيهقي في شعب الإيمان (7/70، رقم 9513)، وقال الشيخ الألباني في صحيح الجامع: صحيح، رقم : (2539).

[4]  هناك موانع للإيمان تندرج جميعها تحت سببين اثنين : الجهل والهوى، فالجهل بالحق وعدم معرفته وعدم وصوله للفرد بطريقة صحيحة هو السبب الأول، أما السبب الثاني وهو الهوى : فهو إما أن يكون بسبب الكبر واستعظام النفس أن تسمع من غيرها، أو بسبب حُبّ الدنيا والرغبة في الاستمتاع بها دون ضوابط أوتكاليف، أو خوفًا على النفس من تبعات الإيمان بالحق ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [القصص : 50] .