الإيمان والحياة

مفاهيم يجب أن تُصحح

التوازن والتكامل في الأعمال
من أهم أسباب إهمال النفس الشعور بأهمية الدعوة إلى الله والانشغال بها على حساب الواجبات الأخرى.
معنى ذلك أنه إذا ما أراد الواحد منا أن يولي وجهه شطر نفسه وبيته بجوار دعوته، فلا بد أن تتضح لديه المفاهيم الخاصة بواجباته تجاه العمل في الدوائر الثلاث (النفس، الأهل، الناس)، وأن يتأكَّد لديه أن اهتمامه بالدعوة لا يبرِّر أبدًا إهمالَ نفسه أو بيته، وكذلك فإن اهتمامه ببيته لا يسوِّغ له إهمال واجباته الدعوية، ولعل ما حدث بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء- رضي الله عنهما- يؤكِّد لنا ضرورة التوازن بين الواجبات، وألا يطغى جانبٌ على آخر..

عن أبي جحيفة رضي الله عنه آخى النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة(1)، فقال: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس به حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعامًا، فقال له: كل فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم فقال له: نم فنام، ثم ذهب يقوم فقال له: نَم، فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا جميعًا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقًّا، وإن لنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فأتى النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- فذكر ذلك له، فقال النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: “صدق سلمان” (رواه البخاري).

من صور عدم التوازن
إذا ما نظرنا إلى واقعنا سنجد أن هناك صورًا عديدةً لعدم التوازن بين الواجبات المختلفة، فالبعض منا عندما يرى ما يحدث لأمته من ذلٍّ وهوانٍ تراه متحمِّسًا حماسًا شديدًا للعمل للإسلام، فيدفعه هذا الحماس إلى الانشغال بالدعوة بين الناس، وولوج كل باب للإصلاح يُفتح أمامه، وفي الوقت ذاته تجده مهملاً إصلاحَ نفسه وبيته ظنًّا منه أن الأولوية للدعوة في إطار المجتمع.
وعندما يرى البعض ما يحدث أمامه من هجمة تغريبية تريد طمْس الهوية الإسلامية لأبناء الأمة- سواءٌ كان ذلك من وسائل الإعلام أو مناهج التعليم- فإنه يبدو خائفًا أشدَّ الخوف على أولاده من هذه الهجمة؛ مما ينعكس على تصرفاته معهم، فتراه ملازمًا لهم، مهتمًّا بكل صغيرة وكبيرة في حياتهم، ويعتبر ذلك مهمته الأولى في حياته؛ مما يؤدي إلى إهماله لواجباته الدعوية.
والبعض الآخر يرى الفتن التي تحيط بالمسلم ليلَ نهار، فيخاف على نفسه ويفكِّر في كيفية نجاته منها، بغضِّ النظر عما يحدث للآخرين، فشعاره: نفسي نفسي؛ لذلك تراه دومًا مهتمًّا بالأوراد والأذكار والاعتكاف والنوم المبكِّر، تاركًا الفوضى تعيث في بيته فضلاً عن مجتمعه.

فهذه ثلاث صور لعدم التوازن بين الواجبات نجدها تتكرر بيننا وبنسب مختلفة، ومما لا شكَّ فيه أن القاسم المشترك بينها هو القصور في الفهم الصحيح لمفهوم التوازن والتكامل في العبادات، ولو نظرنا إلى منشأ ذلك القصور لوجدنا أن سببه الرئيسي يكمُنُ في تسليط الفرد الضوءَ على جانبٍ واحدٍ من جوانب العمل الثلاثة، واستدعاء النصوص التي تخدمه، وعدم النظر إلى النصوص الأخرى التي تحثُّه على الاهتمام ببقية الجوانب.

من هنا تظهر قيمة الاهتمام بالفهم الصحيح للإسلام وشموله لجوانب الحياة المختلفة، وألا يقتصر الفهم على الناحية النظرية، بل لا بد أن يشمل الاهتمام كذلك تطبيق الإسلام بشموله وتوازنه في واقع الحياة.
أفضل العبادات
من لوازم الفهم الصحيح للواجبات المطلوبة من المسلم إدراك ترتيبها حسب أهميتها، والتي قد تختلف من زمان لآخر ومن شخص لآخر، ومما يؤكد هذا المعنى أن رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- كانت إجاباته عن أسئلة السائلين حول “أفضل العبادات” تختلف من شخصٍ لآخر، وإليك أمثلةٌ لذلك:

عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: سُئل رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور”(2).

وعن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: قلت يا رسول الله، أي الأعمال أحب إلى الله تعالى؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله(3).
وعن أبي ذر- رضي الله عنه- قال: قلت يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله والجهاد في سبيل الله(4).
قول الإمام ابن حجر العسقلاني في تعليقه على هذه الإجابات: إنه لا اختلافَ بين هذه الأحاديث؛ لأن الجواب اختلف لاختلاف أحوال السائلين، بأن أَعلَم- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- كلَّ قومٍ بما يحتاجون إليه، أو بما لهم فيه رغبة، أو بما هو لائقٌ بهم، أو كان الاختلاف باختلاف الأوقات، بأن يكون العمل في ذلك الوقت أفضل منه في غيره(5).

ويؤكد ذلك الدكتور عبد الكريم زيدان، فيقول:
القاعدة في أفضل الأعمال الصالحة بالنسبة لشخص ما هي العمل المطلوب منه شرعًا في وقتٍ معينٍ وظرفٍ معينٍ، فالصلاة حين حلول وقتها أفضلُ من غيرها وأوجب على المسلم أن ينشغل بها، والجهادُ في وقته أفضل بالنسبة لمن وجب عليه من القيام بنوافل العبادات وطلب العلم، والصيام في وقته أفضل بالنسبة لمن وجب عليه من الاشتغال بغيره من العبادات، وهكذا.
وعلى المسلم أن يتحرَّى ما هو أحبُّ إلى الله تعالى في ذلك الوقت أو في هذا الظرف القائم، فيسارع إليه ويفضِّله على ما سواه، وبهذا تتحقَّق فيه العبودية الخالصة لله بإيثاره دائمًا ما يحبه الله على ما تحبه نفسه وتهواه، وإن كان من الأعمال الصالحة(6).

ولذلك كان ما وصى به أبو بكر عمرَ بن الخطاب- رضي الله عنهما- عند وفاته: إن لله حقًّا بالنهار لا يقبله في الليل، ولله حقًّا بالليل لا يقبله في النهار، وإنها لا تُقبل نافلةٌ حتى تؤدَّى فريضة(7).
وخلاصة القول: إن على كل منا أن يتوازن في أدائه للواجبات المختلفة، وأن تكون حركته متكاملةً في نطاق الدوائر الثلاث: نفسه، وبيته، ومجتمعه، وعليه كذلك أن يحسن ترتيب أولوياته حسب الظرف والحال الذي يمر به، ففي وقت الصلاة ينبغي أن يكون في المسجد وفي الصفوف الأولى، وفي وقت السحر عليه أن يكون مستيقظًا يصلي، ويستغفر ويبكي، أما في وقت العمل فلا بد أن يكون في ديوانه مجدًّا مجتهدًا نشيطًا يهتم ببيته وما يصلحه وكأنه لا يفارقه، وينشغل بالدعوة وكأنه متفرِّغٌ لها.

مراجعة التكاليف الدعوية
أخي الداعية..
لا بديل- إذن- من التوازن بين الدوائر الثلاث، إذا ما أردنا أن ننجح في المهمة التي طالبَنَا الله بأدائها في الأرض، ومما يساعدنا على ذلك أن يكون لكلِّ واحدٍ منا عينان ينظر بهما وهو يسير في الحياة، عينٌ يتحرك بها بين الناس، يدعوهم ويوجِّههم لفعل الخير، وعين يراقب بها نفسه، ويتعاهدها بما يصلحها.
راجع التكليف
ليكن ميزان كل منا في يده، وليكن شعاره (أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ) (الرحمن)، وعندما يشعر أحدُنا بمَيل كِفَّة عن أخرى فليسارع بالعمل على إحداث التوازن بينهما، ولا بأس من مراجعة التكاليف الدعوية التي تتسبَّب في طغيان الميزان، علينا ألا نستحي من طلب الإعانة أو التخفيف، فالذي يكلف أخاه القيام بعمل ما لا ينظر إلى مدى اهتمامه بنفسه أو بيته؛ باعتبار أن ذلك مهمة كل فرد بمفرده، فإذا قبل الأخ تكليف أخيه فإن هذا يعني أن هذا العمل ليس فوق طاقته التي ينبغي أن تتوزَّع بين الدوائر الثلاث كما أسلفنا.

أنت.. أمْ موسى عليه السلام؟!
تأمَّل معي قصة موسى عليه السلام وكيف استقبل تكليفه بالرسالة ممن؟! من الله عز وجل.. الذي حدَّث- كما أخبرنا بذلك القرآن- أن موسى عليه السلام حين كُلِّف بالرسالة طلَب من ربِّه أن يجعل معه شخصًا آخر يساعده في حلمها والقيام بأعبائها، واقترح عليه السلام أن يكون هذا الشخص هو أخاه هارون.. لماذا فعل ذلك موسى عليه السلام؟! ولماذ طلب الاستعانة بأخيه؟!
يجيب القرآن عن هذه التساؤلات بقوله تعالى- على لسان موسى عليه السلام-:(وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي . هَارُونَ أَخِي . اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي . وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي . كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا . وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا . إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا ) (طه).

إذن فموسى عليه السلام طلب مساعدةَ أخيه له.. لا ليرتاح، بل ليحدث التوازن والاعتدال ويضبط الميزان، فحملُه الرسالة بمفرده قد يشغله عن الذكر الكثير لله عز وجل، أما وجود أخيه معه فإنه يُتيح له ولأخيه ذلك الأمر.

وصف الإمام البنا للداعية

فإن قلت: وما قولك في وصف الإمام البنا للداعية، والذي يتنافى مع ما قيل في الصفحات السابقة؟!
يقول الإمام البنا: قليل من الناس مَن يعرف أن الداعية من الإخوان قد يخرج من عمله المَصلَحي في عصر الخميس فإذا هو في العِشاء بالمنيا يحاضر الناس، وإذا هو في صلاة الجمعة يخطب بمنفلوط، فإذا هو في العصر يحاضر بأسيوط، وبعد العشاء يحاضر بسوهاج، ثم يعود أدراجَه فإذا هو في الصباح الباكر في مركز عمله قبل إخوانه من الموظَّفين، أربع حفلات جامعات يحضرها الداعية من دعاة الإخوان في أطراف القطر في ثلاثين ساعة، ثم يعود أدراجَه هادئ النفس، مطمئن القلب، يحمد الله على ما وفَّقه إليه، ولا يشعر به إلا الذين استمعوه(8).

نعم.. يمكن للبعض أن يفعل ذلك، وهذا هو المجاهد حقًّا، ولكنْ شريطةَ عدم إهماله لنفسه، ودوام تعاهدها وإمدادها بما يُصلحها كما سيمرُّ علينا من فعل الرسول- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- والصحابة رضوان الله عليهم، وكبار المصلحين، بمَن فيهم البنا- رحمه الله- فالمقياس هو عدم طغيان الميزان.

أليس حسن البنا هو القائل: أيها الإخوان، إنكم في دور التكوين، فلا يلهيَنَّكم السرابُ الخادع عن حسن الاستعداد وكمال التأهُّب.. اصرفوا تسعين جزءًا من المائة من وقتكم لهذا التكوين، وانصرِفوا فيه لأنفسكم واجعلوا العشرة أجزاء الباقية لِمَا حولَكم من الشئون، حتى يشتدَّ عودُكم، ويتمَّ استعدادُكم، وتكتمِلَ أهبتكم، وحينئذ يفتحُ الله بينكم وبين قومكم بالحق وهو خير الفاتحين.
وقال كذلك: إن العمل مع أنفسنا هو أول واجباتنا، فجاهدوا أنفسكم.. فإن استطعت- أخي الداعية- أن تتحرك بالدعوة وتعطيها الساعات الطوال من ليلك ونهارك، وفي نفس الوقت تهتم بنفسك وبيتك، فاعلم أنك بذلك تكون السابق حقًّا.
فالميزان إذن في يدك لا في يد غيرك، وأنت الوحيد الذي تستطيع أن تقرِّرَ مدى توازنك في الدوائر الثلاث.
مصلحة الدعوة
قد يقول قائل: أهذا كلامٌ يقال في هذا الوقت الذي تتعرَّض فيه الأمة لهذه الهجمة الشرسة؟!
أليس من الأفضل أن يتوجَّه الحديثُ إلى الدعاة وحضّهم على ذلك بالمزيد من الجهد والتضحية من أجل إقامة المشروع الإسلامي؟! ألا يكفي قعود البعض عن العمل للإسلام والدعوة إلى الله؟! من إذن سيتحرَّك وسط الناس ويملأ الأماكن الشاغرة بينهم إن قلَّل الدعاة العاملون من جهدهم المبذول وأبطأوا من خطواتهم؟!

هذه بعض الأسئلة التي من المتوقَّع أن تدور في أذهان البعض، وتنطلق من غيرتهم على دينهم وتشوُّقهم لرؤية المشروع الإسلامي وقد اكتمل بناؤه، ومن هذا المنطلق أيضًا كانت هذه الكلمات:
أسباب النصر والتغيير

لو كانت أسباب النصر والتغيير ماديةً فقط لكان الحديث موجَّهًا للدعاة ببذل المزيد من الجهد وسط الناس، دون الالتفات إلى متطلَّبات إصلاح النفس، أما إن كان النصر من عند الله، يمنحه لمن يرى أنه أهلٌ لذلك فالأمر بلا شكٍّ سيختلف.

لقد طلب الله- عزَّ وجلَّ- من عباده بعض المطالب، من شأنها- حين تتوفَّر- أن تستدعي نصره وتأييده، وعلى رأس تلك المطالب أن ننصره على نفوسنا (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) (الرعد: من الآية 11)، وأن نكون عبيدًا له (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)) (الأنبياء)، ومع هذا كله يأتي الإعداد المادي حسب الطاقة والمساحة المتاحة (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ) (الأنفال: من الآية 60).

إذًا فأغلب أسباب النصر تنطلق من داخلنا، ولا بديلَ عن تغيير ما بأنفسنا لنصبح عبيدًا لله عزَّ وجلَّ في كل شيء، في التصورات والاهتمامات، في السر والعلانية، في الأقوال والأفعال، فيتمثَّل فينا قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)) (الأنعام).

نعم.. علينا كذلك أن ندعوَ الناس ونأخذَ بأيديهم إلى الله، فلا يكفي صلاح مجموعة قليلة من الأفراد لينصلح حال المجتمع، بل لا بد أن تعودَ الأمةُ إلى الله، فتفرّ إليه، وتصطلح معه، وتترك ما يُغضبه، ولكن لا يمكننا القيام بهذا الدور الخطير في دعوة الناس إلى الله، وتنبيههم للخطر المحدق بهم، وإرشادهم إلى طريق العودة إلى ربهم.. لا يمكننا فعل هذا كله وبطريقة صحيحة ومؤثرة إلا إذا كنا قد أحسنَّا التعاملَ مع أنفسنا، وأقَمْنَا الإسلامَ في بيوتنا، فكما قالوا: فاقد الشيء لا يعطيه، وعلى قدرِ ما في الخزان من ماء يكون استمرار تدفُّقه في الصنابير.

إن مصلحة الدعوة الحقيقية تكمن في العمل على إصلاحنا لأنفسنا أولاً، وبيوتنا ثانيًا، والمجتمع ثالثًا..
مصلحة الدعوة تأتي من توازننا في الدوائر الثلاث..
مصلحة الدعوة أن نكون من أهل القرآن، ومن أهل القيام، والذكر والمناجاة..
مصلحة الدعوة أن يكون كل منا عند نفسه صغيرًا، فلا يراها إلا بعين النقص والحذر، وفي المقابل فإن مَن لم يهتمَّ بذلك، وينشغل فقط بالحركة الخارجية وسط المجتمع، فقد أضرَّ بدعوته، وابتعَدَ بها عن مظانِّ التوفيق الإلهي، فالكرامة على قدر الاستقامة (وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16)) (الجن).

إياك والقعود..
فإن كانت مصلحة الدعوة الحقيقية تستلزم منا التوازن بين الدوائر الثلاث- النفس والبيت والمجتمع- فلنجتهد في ذلك غاية الاجتهاد، ولنحتسب عند الله عملَنا مع زوجاتنا وأبنائنا كما نحتسب عنده عملنا مع الناس.
نعم.. قد تتعرَّض أخي الداعية لبعض العتاب مع أصدقائك، وقد تسمع منهم كلامًا يُشعِرُك بأنك مقصِّرٌ في الدعوة والعمل لله عز وجل.. عتابهم هذا قد يكون صوابًا إذا ما كنت ستبطئ من حركتك في الدعوة، وتسرع بها في أمر الدنيا، أو أنك ستستبدل بالوقت الذي كنت تشارك به في بناء المشروع الإسلامي أن تعمل عملاً إضافيًّا يدرُّ عليك دخلاً ماديًّا جديدًا يزيدك استمتاعًا بالحياة.
سيكون لإخوانك الحق في عتابهم لك إذا تركتهم وجلست في بيتك تشاهد القنوات الفضائية والنشرات الإخبارية والمباريات الرياضية، تاركًا نفسك وأهل بيتك دون اهتمام، وسيكون لهم الحق كذلك لو انشغلت بإصلاح نفسك وبيتك وتركتهم بمفردهم يواجهون ما يواجهونه من ضغوط.
أما إذا قمت بأداء واجبك الدعوي على أكمل وجْهٍ، ثم سارعت بالعودة إلى منزلك، فجلست بين زوجتك وأولادك، تلاعبهم، وتعلمهم، وتوجِّههم، وتتابعهم، ثم تستأذنهم بعد ذلك بالدخول إلى غرفتك فتنشغل بأواردك وصلواتك.. إن فعلت ذلك فأنت على الطريق الصحيح، واعلم أخي الداعية أن الثمار الطيبة التي ستَظهر علينا وعلى بيوتنا- بل على الدعوة كذلك- ستكون أكبر داعية لضرورة التوازن ببن الدوائر الثلاث.

الخلاصة..
أخي الداعية.. من الخطأ بمكان أن تفهم هذه الكلمات على أنها دعوةٌ للقعود، وليعلم كل منا أنه إذا قعَد في بيته بحجَّةِ إصلاحِ نفسِه، وترْكِ الحركة وسْط المجتمع فقد عرَّض نفسه للتقصير، ولِمَ لا وجميعنا يرى النارَ تأكلُ الديارَ، وصرخات المسلمين المضطَّهدين لا تنقطع ليل نهار؟! وفي المقابل فكل مَن ينشغل بالدعوة وينسى نفسه، فقد وقع في محظورٍ كبيرٍ، وستلحق به أضرارٌ جسيمةٌ تؤثر عليه وعلى دعوته.
والأخطر من هذا وذاك أن نجلس في بيوتنا فارغين، لا ننشغل بإصلاح أنفسنا أو دعوة غيرنا، فلا بديل عن التوازن بين الدوائر الثلاث.

لا استثناءات
أخي الداعية.. لا عذرَ لنا في إهمالنا أنفسنا أو أهلينا، فمهما كانت مشاغلنا فلن نرقَى بأي حال من الأحوال لمشاغل رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- وحرصه على هداية الناس وتبليغهم دعوة الإسلام، ألم يقُل له سبحانه وتعالى: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)) (الكهف).
ومع ذلك فقد كان- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- حريصًا على دوام ذكر الله، وقيام الليل؛ لدرجة أنه لم يترك القيام في سفرٍ أو حضرٍ، كما أخبرت بذلك السيدة عائشة رضي الله عنها(9).
وكان- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- رغم مشاغله الضخمة في خدمة أهله، يفلِّي ثوبه، ويحْلِبُ شاته، ويرقِّع ثوبه، ويخصف نعله، ويخدم نفسه، ويقمُّ البيت، ويعقل البعير، ويعلف ناضحه، ويأكل مع الخادم، ويحمل بضاعته من السوق(10).

لا استثناء لأحد..
من هنا يتضح لنا أنه لا استثناءَ لأحد في إهماله نفسه أو أهله، وكيف يكون ذلك والله عزَّ وجلَّ يقول لنبيه: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7)) (الشرح)، أي إذا فرغت من دعوة الناس فانصب للعبادة.. قال الضحاك: فإذا فرغت أي من الجهاد فانصب أي في العبادة(11).

وعندما جاء التوجيه الإلهي في صدر الدعوة بقيام الليل كان من تعليلاته (إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً (7)) (المزمل)، فالذي يُعين الداعية على الدعوة الصادقة والحركة الصحيحة بين الناس بالنهار ليس راحة البدن بالليل بل القيام الطويل (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً (7)) (المزمل).

ومما يؤكد هذا المعنى أن رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- استحثَّنا على تعويض ما يفوتنا من أوراد وقيام، يقول- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: “من نام عن حزبه، أو عن شيء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل”(12).

رهبان بالليل
والناظر لسيرة خير القرون من الصحابة- رضوان الله عليهم- يجد أنهم قد وازنوا بصورة طيبة بين الجهاد في سبيل الله من ناحية والاهتمام بأنفسهم من ناحية أخرى، فكانوا كما وُصفوا رهبانًا بالليل، فرسانًا بالنهار:
يُحيون ليلهم بطاعة ربهم بتلاوة وتضرع وسؤال
وعيونهم تجري بفيض دموعهم مثل انهمال الوابل الهطَّال
في الليل رهبان وعند جهادهم لعدوهم من أشجع الأبطال
وإذا بدا علم الرهان رأيتهم يتسابقون بصالح الأعمال
جاءت هند زوج أبي سفيان- رضي الله عنهما- زوجَها صبيحة فتح مكة، فقالت له: أريد أن أبايع محمدًا، قال أبو سفيان: قد رأيتك تكفرين، قالت: أي والله، والله ما رأيت الله تعالى عُبِد حقَّ عبادته في هذا المسجد قبل الليلة، والله إن باتوا إلا مصلين قيامًا وركوعًا وسجودًا(13).
أرأيت أخي الداعية أنه مع التعب وعناء السفر فإن ذلك لم يصرف الصحابة عن قيام الليل؟!
ويؤكد هذا المعنى الأثر الذي أخرجه الإمام أحمد في الزهد عن معاوية بن خديج قال: بعثني عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب- رضي الله عنهما- أخبره بفتح الإسكندرية، فقدمت إلى المدينة في الظهيرة، فأنخت راحلتي بباب المسجد ثم دخلت المسجد إذ خرجت جارية من منزل عمر فرأتني شاحبًا، عليَّ ثياب السفر، فانصرفَت، فقالت: أجِبْ أمير المؤمنين.. فذكر الحديث، قال: يا جارية هل من طعام؟! فأتت بخبز وزيت، قال: كل.. فأكلت على حياء، قال: فإن المسافر يحب الطعام، ثم قال: يا جارية هل من تمر؟! فأتتني بتمر في طبق، قال: كل فأكلت على حياء، ثم قال: ماذا قلت يا معاوية حين أتيت المسجد؟ قال: قلت إن أمير المؤمنين قائل “أي نائم وقت القيلولة”.
قال: بئس ما قلت، أو بئس ما ظننت، لئن نمت النهار لأضيِّعنَّ الرعية، ولئن نمت بالليل لأضيعنَّ نفسي، فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية(14).

هكذا كان المصلحون
والملاحظ أن المصلحين والمجدِّدين في تاريخ أمتنا، رغم جهادهم الطويل، وشدة انشغالهم بدعوة الناس إلى الله.. فإنه لم يؤثَر عنهم إهمالُهم لأنفسهم، فلقد كان لكل منهم زادٌ يوميٌّ لا بد أن يتناوله.. يقول ابن القيم- رحمه الله-: حضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرةً صلاة الفجر، ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من منتصف النهار، ثم التفت إليَّ وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغذَّ هذا الغذاء سقطت قوتي(15).
وهذا القاضي ابن شداد، الذي عاصر صلاح الدين الأيوبي يقول عنه: وأما الصلاة فكان- رحمه الله- شديد المواظبة عليها، حتى إنه ذكر يومًا أنه من سنين ما صلى إلا جماعة، وكان يواظب على السنن الرواتب، وكان له صلواتٌ يصليها إذا استيقظ من الليل، وإلا أتى بها قبل قيام الفجر، وكان- رحمه الله- يحب سماع القرآن العظيم، وكان خاشع القلب غزير الدمعة، إذا سمع القرآن يخشع قلبه وتدمع عينه في معظم أوقاته(16).

هذا هو صلاح الدين الذي كان كما نعلم منشغلاً بالجهاد في سبيل الله، وبتحرير القدس من دنس الصليبيين، يقول ابن شداد: كان- رحمه الله- عنده من القدس أمرٌ عظيمٌ لا تتحمّله الجبال، وهو كالوالدة الثكلى يجول بفرسه من طلب إلى طلب، ويحثُّ الناس على الجهاد، ويطوف بين الأطلاب وينادي يا للإسلام!! وعيناه تذرفان بالدمع(17).

البنا على الدرب
أما مجدِّد القرن الرابع عشر الإمام حسن البنا- رحمه الله- فعلى رغم جهده الضخْم في الحركة وسط الناس، ومع سفره المتواصل لتبليغ الدعوة إلى مئات القرى والنجوع، ومع انشغاله الشديد بهموم أمته، فإن هذا كله لم يكن على حساب اهتمامه بنفسه وما يصلحها.. يقول عمر الأميري: لقد راقبته أدقَّ المراقبة، حتى إنني كنت أتابعه من شقوق الباب وهو يصلي في غرفته خاليًا قبل النوم، وكنت أفحص خضوعه فأراه أطول سجودًا وأكثر إقبالاً على الله منه وهو يصلي بنا(18).
ويحكي الأستاذ عمر التلمساني عن موقف صحبه فيه إلى المنزلة(19) بعد كثرة الإجهاد من السفر، والجلوس مع الإخوان، ومتابعة أنشطتهم، حدث ما يلي:

وبعد الحفل صعدنا إلى الطابق الثاني في منزلٍ لنأخذ قسْطًا من الراحة، ودخلت معه إلى حجرة بها سريران فدخل سريرَه، وأرخى ناموسيته، وفعلتُ مثلما فعَل على السرير الآخر، وكان التعبُ والإجهاد قد بلغ مني مداه، فاعتراني قلقٌ، وبعد خمس دقائق تقريبًا سألني فضيلتُه: هل نمْتَ يا عمر؟! قلت: ليس بعد، ثم كرَّر السؤال بعد فترة ثم بعد فترة، حتى ضِقْتُ بالأمر، وقلت في نفسي: ألا يكفيني ما أنا فيه من إجهاد وقلق حتى تضاعف علي المتاعب!! ألا تدعني أنام؟! كان هذا حديثًا صامتًا يدور بيني وبين نفسي فصمَّمت على ألا أردَّ على أسئلته مُوهِمًا إياه أنني نمت، فلما اطمأنَّ إلى نومي نزل من سريره في هدوءٍ كاملٍ، وعند الباب أخذ القبقاب بيده وسار حافيًا حتى وصل إلى دورة المياه؛ حيث توضَّأ وأخذ سجادةً صغيرةً، وذهب إلى آخر الصالة بعيدًا عن الغرفة التي ننام فيها، وأخذ يصلي ما شاء الله له أن يصلي، ونمت أنا ما شاء الله لي أن أنام(20).



متبذلة: أي لابسة ثياب المهنة تاركةً ثياب الزينة.
1- رواه البخاري.
2- متفق عليه.
3- متفق عليه.
4- متفق عليه.
5- فتح الباري 2/13
6- أصول الدعوة: د. عبد الكريم زيدان (41/42).
7- تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي (71).
8- رسالة المؤتمر الخامس، مجموعة الرسائل لحسن البنا (182/183)- دار الدعوة-الإسكندرية.
9- أخرجه أبو داود.
10- رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها، يقمُّ: يكنس، ناضحه: الجمل الذي يستقي عليه بالماء.
11- تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/479.
12- رواه الإمام مسلم عن عمر بن الخطاب.
13- رهبان الليل لسيد حسين العفاني 1/310
14- الزهد للإمام أحمد (122، 123) دار الكتب العلمية- بيروت.
15- الوابل الصيِّب لابن القيم (85، 86) مكتبة المؤيد- الرياض.
16- رهبان الليل لسيد حسين العفاني 1/435، 436
17- رهبان الليل لسيد حسين العفاني 1/435، 436
18- أوراق من تاريخ الإخوان- ظروف النشأة (207 لجمعة أمين).
19- بلدة في شمال مصر.
20- أوراق من تاريخ الإخوان- ظروف النشأة (207 لجمعة أمين).