الكاتب: محمد فتح الله كولن
﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾
(آلِ عِمْرَان:64)
اتخاذ موقف لين تجاه أهل الكتـاب أمر من أوامر القرآن. ليس أهل الكتاب فحسب بل أمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يقول كلاما لينا لفرعون ﴿فَقُولا لَهُ قَولاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَو يَخْشَى﴾ (طه: 44). لذا فلا مكان أبداً في الإسلام للكلام الخشن أو اللوم العنيف للناس في الدعوة إلى الله.
والآية أعلاه أنموذج بليغ للكلام اللين القريب من القلوب، والكلام الجذاب في الدعوة. فإن تخيلنا الإسلام قلعة محاطة بأسـوار تمثل حدود الله، فلا شـك أن هناك أبواباً عديـدة لها وهناك طرق كثيرة بعدد الخلق تؤمن الوصول إلى هذه الأبواب. ويقوم الإسلام بأسلوبه الخاص باحتضان الناس في أي طريق من هـذه الطرق وفي أي نقطة من نقاطها لكي ييسر لهم الدخول من أحد هذه الأبواب. إن عدم وضوح هـذا التدرج، أو عدم إدراكه قاد البعض في السابق ولا يزال يقودهم إلى أخطاء معلومة.
وهذه الآية تستقبل أهل الكتاب في إحدى نقاط هذه الطرق وتقترب منهم بوجه بشوش وكلام حلو جميل وتقول لهم: “تعالوا إليّ!… هلموا إليّ!” وعندما تخاطبهم هكذا تقول لهم: “إن ما أدعوكم إليه ليس جديداً عليكم، وليس شيئاً تجهلونه… بل هو مما عرفتموه وأنستم به قبلنا، ولكن يجوز أنكم نسيتموه، أو تذكرتموه بشكل خاطئ”. ومثل هذه الدعوة تؤسس جسراً بيننا وبين أهل الكتاب، وتلمس نفوسهم من جانب يأنسون به. وهذا الأسلوب في الدعوة إلى الإسلام مهم جداً، وتستطيعون أن تطلقوا عليه التعبير الشائع في هذه الأيام وهو “أسـلوب الحوار”. أجل… إن دعوة الإسلام أهل الكتاب إلى نقطة مألوفة لديهم يمكن تلخيصها في كلمة واحدة مختصرة، لأن القرآن طلب منهم شيئا واحدا فقط، وهو اجتياز هذا الجسر المشاهَد أمام الأنظار والوصول إلى هذا الباب. فإذا وضعنا كل شيء جانباً فإن كلمة “سواء” وحدها تعبر عن هذا المفهوم الدقيق للين وسعة الصدر والرغبة في تشييد الجسور بيننا وبينهم. فما هي خواص وصفات هذا الجسر؟
هنا نرى أن القرآن بدلاً من الحديث عن القيام بتعريف المثبت يقوم بعرض المنفي أمام الأنظار فيدخل إلى الموضوع بالشكل الآتي: أولاً إن أهل الكتاب كانوا يعرفون الله في إطارهم الخاص. غير أنه بعد مرور عدة عصور تراكم الغبار على هذه المعرفة التي فقدت نضارتها وجدتـها، لذا كان من الضروري القيام بعملية تنظيف وتطهير. وعندما يتم هذا تظهر الحقائق واضحة أمام جميع الأنظار. ويمكن رؤية عملية التنظيف هذه من جملة ﴿أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ﴾. أي إن الإسلام يبدأ كل عمل بعملية تنظيف وتطهير فيخلص الأذهان من الأفكار الخاطئة ومن الانحرافات ويخلص الأنظار من الزيغ. وعندما يذكر “إلا الله” فهو يقوم قبل تعريف الشيء الإيجابي بعملية فكرية وبعملية عقلية، بل ربما بعملية تجديدية. لذا فهذه الآية بدلاً من القول “لنعمل كذا وكذا” تقول “دعونا لا نعمل كذا”.
أجل! فبعض أهل الكتـاب انحرفوا بمرور الزمن إلى الشرك، فبدأوا يسندون لله تعالى أبناء وبنـات مثلهم مثل الوثنيين. ودخلوا في دوامة غير مفهومة من الأخطاء مثل القول بأن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد. وأعطوا لأحبارهم ورهبانـهم صلاحيات إلهية مثل قبول التوبة ووضع التشريع، ومظاهر شـرك أخرى في العبادات. والتعبير الوارد في الآيـة حول اتخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله يتعلق بالشؤون الحياتية اليومية ويقرر بأنـهم لا يملكون حق التشريع. لذا يبدأ القرآن بتخلية القلوب والأذهان وتنظيفها من الشرك بالله تعالى، وبتوجيه العبادة إليه وحده. يجب أن تكون الصلاة والصوم والحج والزكاة لله تعالى، وأن تقدم القرابين والأضاحي له وحده. هنا قد يقول أهل الكتاب بكل بساطة: “إننا نعمل كل هذا في سبيل الله”. هنا تأتي إذن مرحلة عدم الشرك بالله تعالى بأي شكل من الأشكال. أي عدم قبول أي خالق آخر سواه كالطبيعة أو الأسباب أو أي قوى أخرى. والاعتقاد بأن الخلق والموت والحياة والرزق وإدارة الكون يعود إليه وحده. وتنـزيهه من أن يلد أو يولد أو أن يكون في حاجة إلى أحد، وتنـزيهه من أي نقص أو عيب، أو أن يكون أحد كفؤاً له. فإن انـزاح هذا الستار الأسود من فوق الإيمان عند ذلك يمكن التوجه نحو مظاهر الحياة الأخرى، وذلك لكي يتم الإيمان بالله وتتم العبادة الخالصة لـه، أي يتم التوحيد بكل معانيه. وهكذا فكما يوجد تدرج في دعوة الإسلام، كذلك هناك تدرج في عملية ربط الأذهان والقلوب وربط الحياة اليومية بالتوحيد. وكما أكد الأستاذ النورسي فإن الإسلام -في وجه من الوجوه- عبارة عن تحصيل وترصين وتحكيم الإيمان. أجل! فكل شيء في نـهاية المطاف يستند إلى الإيمان وإلى التوحيد. وبعد تكوين الحقائق التي يشغل الإيمان والتوحيد مركزها يتم الاهتمام بالمسائل المتعلقة بالمحيط الخارجي وتعيينها.
إن عدم معرفة سعة دعوة الإسلام ودعوة التوحيد وعمقها وسمة التدرج فيها حق المعرفة بمثل هذا المقياس وعدم معرفة استراتيجيتها في بناء الجسور مع مختلف طبقات الشعب وأقسامه، والوقوع في فهم خاطئ في هذا الصدد أدى إلى ابتعاد الكثيرين عن الإسلام. وكانت النتيجة مظهراً مختلفاً بل مضاداً ومخالفاً تماماً لروح هذا الدين الذي يملك قوة جذب قوية تجذب الناس إليه. فمن جانب تم تشويه الرأي العام وتطلعات الجماهير، وسادت العجلة -التي هي من سمات الضعف البشري- كل شيء وأهملت قاعدة التدرج، والأهم من هذا أنه أهمل ترتيب الخطوات المتتالية المذكورة في هذه الآية، حيث تم البدء من نـهايتها ومن فقرتها الأخيرة. وكانت النتيجة التورط في اتجاه اعتبرته الجماهير اتجاهاً متطرفاً. ومن جهة أخرى تم الادعاء بأنـه حتى المنحرفين عن الطريق الأحمدي سيدخلون الجنة، وذلك نتيجة لعدم فهم وإدراك معنى ومضمون هذه الآية الكريمة حق الفهم وحق الإدراك. مع أن الآيات -ومنها هذه الآية- إن دققت جيداً تبين بأنـها تقيم فقط الجسور مع أهل الكتاب وتفتح الأبواب أمامهم. أما ما يتم بعد دخول هذه الأبواب فلا يصرح به، بل تقوم آيات أخرى بذلك. لذا لا يجوز لأحد أن يقول مشيراً إلى هذه الآية بأن أهل الكتاب إن آمنوا بالله وبرسولنا ولكن لم يسلكوا سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم “… سيكون كذا وكذا “. لأن مثل هذه الآيات هي لدعوة أمثال هؤلاء إلى سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم. وبعد دخول سبيله هذا والولوج من باب قصره فإن ما يجب عليهم اتباعه غني عن البيان. ومن أجل فهم الإسلام والقرآن جيدا واستيعابهما يجب النظر إلى القرآن والسنة نظرة شاملة وفهم الأجزاء ضمن هذا الكل ووضع كل شيء في محله الصحيح. فكما تتوجه خلايا الجنين في رحم الأم كل إلى مكانـها الصحيح دون أي انحراف أو خطأ فلا تذهب خلية العين إلى الأذن، كذلك كان من الضروري وضع كل شيء في مكانه الصحيح عند تشكيل وإنشاء طرز الحيـاة الإسلامية. وهذا يتعلق بفهم القرآن والسنة ضمن إطارهما الشامل والكلي وفهم واستيعاب كل جزء ووضعه في مكانه الصحيح. وإلا كان من المحتوم ظهور تفاسير واجتهادات منحرفة وخاطئة وتناقضات. وذلك مثل تشوه الجنين في رحم الأم أو مثل حدوث حالات الإجهاض عند الولادة.
والخلاصة أننا نستطيع القول هنا بأنه يمكن دعوة الأرواح والضمائر المختلفة والثقافات والحضارات المستندة إلى مفاهيم مختلفة، والأمم التي شكلتها وأنشأتـها الكتب المتعددة المنـزلة في أزمان مختلفة إلى خط قد نستطيع تسميته بـ”خط الصلح” يقبله كل قلب وضمير. خط يوحد ويؤلف ويتناول كل مسألة في إطار من الرحمة الواسعة الشاملة، وفي دائرة من البعد الكوني، مما يعطي لكل فكر ولكل ضمير فرصة الحل في ظل تحكيم الحق. وهكذا تستطيع الأرواح التخلص من قبضة الأهواء لتصل إلى العبودية الحقة للمعبود المطلق جل شأنه وتنقذ نفسها من العبودية لآلهة الدنيا الزائفة.