لأن الله عز وجل خلق الإنسان لغاية واحدة (هي اختبار العبودية) ولأنه تبارك وتعالى يريد له النجاح في هذا الاختبار ومن ثم دخول جنته، فإنه سبحانه وتعالى خلق الإنسان مكوناً من أربعة جوانب رئيسة تشكل شخصيته وتصيغ بنائه هذه الجوانب هي : العقل، القلب، النفس، البدن.
وكل من هذه الجوانب أو المكونات الأربعة تبدأ صغيرة مع بداية الإنسان ثم جُعل للإنسان حرية تربيتها وتنميتها في أي اتجاه يختاره، فإذا نماها في اتجاه ربه أثمرت عبداً مؤمناً وإنساناً سوياً، وإذا نماها ورباها في اتجاه هواه وما يزين له الشيطان أنتجت شيئاً أضل من الأنعام، ألم تر أن الله سبحانه وتعالى قال: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ). [الأعراف:179]
فإن أردنا أن نعلم أكثر عن هذه الجوانب وكيف نربيها في الاتجاه الصحيح الذي يجعلنا –بإذن الله- نجتاز اختبار العبودية بنجاح فهذا هو التفصيل حول الجوانب الأربعة:
أولاً: العقل…
إن اختبار عبودية الإنسان لربه ليس كاختبار غيره من الكائنات، إذن الإنسان طلب منه أن يعبد الله بالغيب أي دون أن يراه، فأنَّى له ذلك؟
إن العبودية تقتضي الذل والخضوع والانكسار وتنفيذ الأوامر واجتناب النواهي، كل ذلك إضافة إلى الحب الشديد للسيد المعبود، إذن فالعبودية عبارة عن بعض المعاملات -قلبية كانت أو جسدية- وأنَّى لأحد أن يعامل أحداً بهذه الأشياء دون أن يراه؟ يعامله بالغيب!!
هناك قاعدة تقول أن المعاملة تكون على قدر المعرفة، بمعنى أنك لو قابلت أحداً لا تعرفه لأول مرة فإنك -بلا شك- ستعامله معاملة تختلف عن تلك التي تعامله بها في لقائك الثاني و الثالث به، بل إنها ستختلف كلياً لو تعرفت على هذا الشخص و أصبح صديقاً لك.
كذلك، فإن المعاملة مع الله تكون على قدر معرفتنا له…
أخرج عبد بن حميد عن صالح بن مسمار قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية “يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ” [الانفطار 6]. ثم قال: جهله[1].
وقال رجل لأبي سليمان الداراني: لقد ظللت البارحة أذكر النساء. فقال له (وهو منزعج) كيف تفعل ذلك؟ ألا تخشى الله!! ثم سكت أبو سليمان ثم قال: ولكن كيف تخشى من لا تعرفه؟
فالبوابة الرئيسية لتحقيق العبودية هي معرفة المعبود جلَّ وعلا.
وكلما ارتقت المعرفة تحسنت المعاملة ومن ثم تحسنت العبودية.
وهنا يأتي دور (العقل) والذي حباه الله من الإمكانات ما يؤهله لاستخراج ما أودعه الله في الكون من معلومات عنه سبحانه وتعالى، فالمتأمل لهذا الكون الفسيح وما به من مخلوقات -لا يعلم عدد أنواعها إلا الله تبارك وتعالى- يدرك أنه تعالى لم يخلق هذا عبثاً،
فرغم أننا نعيش في مساحة ضئيلة من الأرض ونأكل أنواعاً قليلة من الزرع والطير والحيوانات إلا أن تلك الأنواع وغيرها مما لا يُأكل، وهذه الأرض وغيرها مما لا يُسكن مخلوق ليعرفنا بالله، كل واحد منها يحمل معلومة عن الله، فالبحر الكبير يحمل معلومات عن عظمة الله وجبروته وجلاله وقدرته، والطير الصغير يحمل معلومات عن رحمة الله سبحانه ورأفته، والحيوان المفترس يحمل معلومات عن قهر الله وعزته وكذلك الجبال والهضاب و السهول ….إلخ في كل مخلوق أودع سبحانه وتعالى بعضاً من المعلومات عنه.
وقد جعل للإنسان عقلاً يستنبط تلك المعلومات ويجمعها حتى يعرف ربه ومولاه فيعبده دون أن يراه ومن ثم يجتاز أصعب اختبار في الكون أشفقت منه السماوات و الأرض و الجبال.
إن مهمة العقل الأساسية هي التعرف على الله تعالى من خلال كونه، وأي شيء يفعله العقل سوى ذلك ما هو إلا تضييع له فيما لا طائل منه،
لذلك فإن أعظم ذنب فعله الكفار أنهم ضيعوا عقولهم ولم يضعوها في مكانها الصحيح، فالله يقص علينا قولهم وهم في النار (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ(11)) [الملك:10،11]
[1] أورده السيوطي في الدر المنثور 6/ 534- دار الكتب العلمية- بيروت.