الكاتب: أبو الحسن الندوي
﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [التوبة : 117- 118].
كانت غزوة تبوك التي غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يقول كعب بن مالك رضي الله عنه: « في حر شديد، واستقبل سفرًا بعيدًا، ومفازًا، وعدوًا كثيرًا قويًا »، يعني المملكة الرومية العظيمة التي كانت تحكم نصف الأرض المعمورة تقريبًا، وكان ذلك في عسرة في الناس، وجدب في البلاد، ولذلك سميت غزوة العسرة، وقد طابت الثمار والظلال في المدينة، وقويت الرغبة في البقاء في الوطن والأهل، وانصرفت الطباع وزهدت النفوس في الخروج والغزو، وقد اجتمعت الأسباب المثبطة العائقة، وحلا البقاء في المدينة، وشق الخروج والمجازفة بالحياة، أمام عدو قد دمر الامبراطورية الفارسية، وهزمها هزيمة منكرة بالأمس القريب.
ولكن كان من معجزات التربية النبوية، ومن معجزات الإيمان والعقيدة أن لم يتخلف عن هذه الغزوة الشاقة العسيرة إلا ثلاثة أشخاص من المؤمنين، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ ولا ديوان، فما من رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أنه سيخفى عليه مالم ينزل فيه وحي الله، فليس عليهم رقيب إلا الإيمان، وليس لهم حسيب إلا ضميرهم وعقيدتهم، ولم يتخلف هؤلاء الثلاثة إلا بطبيعة التسويف أو الكسل الذي قد يعتري الرجل النشيط. وقد كان فيما لقوا من تأنيب الضمير ولائمة النفس، والشعور بالغربة، والتخلف عن الرفاق، وعن الإنسان الذي آثروه على أنفسهم وأولادهم ومهجهم وأرواحهم: لقد كان في ذلك عقاب شديد.
ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم سألهم عن سبب التخلف فصدقوا واعترفوا. وكان لابد من تأديب، وكان لابد من درس، وكان لابد من امتحان الإخلاص والولاء، والحب والوفاء، وكان ذلك، فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامهم من بين من تخلف عنهم.
فماذا كان بعد ذلك؟
ظهرت معجزة مثبتة للإيمان والتربية وسلطان العقيدة. كانوا أبناء المدينة، عاشوا فيها ولهم فيها إخوة وأقارب، وأهل وولد، وأصدقاء وأحباب، ولكن خضع المجتمع كله لكلمة تصدر من شفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا عاصي، ولا ثائر.
فهذا كعب بن مالك يأتيه ابن عم له ، وأحب الناس إليه ، فسلم عليه فلم يرد السلام ، فنشده بالله : هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فيجيب بعد ما نشده ثلاث مرات: الله ورسوله أعلم، فتفيض عينا كعب بن مالك.
ويأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يعتزل امرأته فيفعل ويُلحقها بأهلها ، ويخطب وده ملك غسان الكبير ، ويدعوه ليواسيه ويكرمه ، وكان أشد محنة امتحن بها مُحب : يجفو الحبيب القريب ، وينبذه المجتمع وتُقصيِه البيئة ، وفي هذه الضائقة والجفوة يطالبه ملك ويرسل إليه كتابا بأخبار بره ورفده وعطاياه الواسعة، فيرفض ذلك في إباء وكراهية وتحقير، إنه معجزة ثالثة للإيمان والتربية وسلطان العقيدة.
ولما تم كل ذلك ، وبلغ الضيق غايته والمحنة أشدها ، ولا أبلغ من قول الله تعالى : ﴿ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ…﴾ إلخ: تاب الله على هؤلاء المُخلَّفين المؤمنين الصادقين ، الذين ظهرت قوة إيمانهم في هذه المحنة أشد مما تظهر من في معركة حربية أو غزوة عملية ، وثبتوا في هذا الجفاء والإقصاء أشد مما يثبت البطل على حر السيوف والأسنة.
تاب الله عليهم توبة كريمة ، شرَّف فيها قدرهم ، وغسل عنهم عارهم ، وخلَّد ذكرهم وبيَّض وجوههم ، وبدأ بالنبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة وهكذا ألحقهم بأصحابهم الذين سبقوهم ووضعوهم في هذا المكان المشرَّف الكريم .
وما بدأ بذكر النبي صلى الله عليه وسلم الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، ولا بذكر الذين ساهموا في هذه الغزوة : إلا لإعادة الثقة إلى نفوس هؤلاء الثلاثة ورد اعتبارهم ومكانتهم في المجتمع.
وليست هناك طريق أو أسلوب أقوى وأعمق تأثيرًا من الأسلوب الذي اختاره القرآن، وهو أنه قدَّم ذكر السابقين الراسخين الذين سبقت لهم الحسنى ولم يسقطوا هذه السقطة، يشرفهم ويتقدم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبدأه بقوله: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ…﴾ إلخ، ليعرف الناس أن التوبة مكرمة وفضيلة ، ويحتاج إليها الأنبياء والمرسلون والسابقون الأولون، والمؤمنون الراسخون، والمجاهدون المغامرون، لئلا يشعر هؤلاء الثلاثة أنهم منحطون في القدر نازلون في الشرف، ولئلا يلصق بهم هذا العار، ولئلا يشعر المجتمع الإسلامي أنهم غرباء متميزون، وشامة في الناس يُشار إليهم بالبنان ، فقال:
﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [التوبة : 117- 118].