لو قُدَّر لأحدنا أن يرى ما يحدث في الأرض كما يراه الملأ الأعلى فماذا سيكون رد فعله؟
تخيل أنك ترى أناسًا يعيشون في ملك الله.
ويأكلون من رزقه.
وينامون آمنين في حفظه.
والخدم تحيط بهم من كل جانب .. مسخَّرة لديهم ومأتمرة بأوامرهم.
ثم بعد ذلك كله لا يذكرون من أكرمهم بهذا كله, لا يشكرونه، ولا يعبدونه، بل يعصون أوامره، ويجحدون نعمه، ويبارزونه بالمعاصي، ويدَّعون عليه الادعاءات, فمن قائل إن له ولدًا، ومن قائل إن له شريكًا، ومن قائل إن هناك إلهًا غيره.
تخيل أن هذا يحدث كل يوم، بل في كل وقت، وتخيل أنك ترى هذا كله، فماذا سيكون رد فعلك؟!
سيكون بلا شك رد الفعل الطبيعي الذي تعيشه كل المخلوقات التي تشاهد ما يفعله الإنسان من جحود وعصيان، وتجرؤ على ربه.
سيكون مثل رد فعل السماوات والأرض والجبال حينما يردد بعض الضالين أن لله ولدًا ]وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ` أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا[ [مريم: 88، 91].
سيكون رد فعلك كالبحر الذي يستأذن كل يوم أن يغرق ابن آدم لكثرة معاصيه، وجرأته على ربه.
ولكن الحليم لا يسمح بذلك ]إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا[ [فاطر: 41].
الخليل يرى الملكوت
لقد حدث – أخي القارئ – لإبراهيم عليه السلام ما كنا نتخيله منذ قليل “وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ” [الأنعام: 75] فلقد رُفع إلى ملكوت السماوات، ونظر إلى أهل الأرض، ورأى منهم ما رأى من معاص وفجور فماذا كان رد فعله وهو كما وصفه الله عز وجل ]إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ[ [هود: 75].
فعن سلمان الفارسي قال: لما رأى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض رأى رجلا على فاحشة فدعا عليه فهلك، ثم رأى آخر على فاحشة فدعا عليه فهلك، ثم رأى آخر على فاحشة فدعا عليه، فأوحى الله إليه: أن يا إبراهيم مهلا فإنك رجل مستجاب لك، وإني من عبدي على ثلاث خصال: إما أن يتوب قبل الموت فأتوب عليه، وإما أن أُخرج من صلبه ذرية يذكروني، وإما أن يتولى فجهنم من ورائه»([1]).
نعم بل والأعجب من ذلك أنه سبحانه ينتظر توبة عبده ويفرح بها فرحاً شديداً، أشد من الذي وجد نجاته بعد الهلاك وحياته بعد الموت.
تأمل معي قوله صلى الله عليه وسلم «لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها، قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح»([2]).
وإليك كذلك هذا الحديث العجيب, قال صلى الله عليه وسلم: «لله أشد فرحًا بتوبة عبده من العقيم الوالد، ومن الضال الواجد، ومن الظمآن الوارد»([3]).
إن هذا يجعلنا نغير خطابنا الدعوي ليكون ممزوجاً بالشفقة عليهم، بدلاً من الغلظة والتعنيف.
يجعل كلامنا ووعظنا للناس مملوءً بالأمل في رحمة الله، لا مملوءً باليأس والتقنيط من عفوه سبحانه.
لذلك فأحب عباد الله إلى الله من يُحبب الناس فيه، ويدعوهم للعودة إليه وإلى طاعته كي يدخلهم الجنة.
قال صلى الله عليه وسلم: «إني لأعرف ناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء بمنزلتهم عند الله سبحانه يوم القيامة، الذين يحبون الله ويحببونه إلى خلقه، يأمرونهم بطاعة الله فإذا أطاعوا الله أحبهم الله» ([4]).
فالله عز وجل يبغض الشرك والكفر الذي تلبَّس بالمشركين الكفار، ولكنه سبحانه يريد أن يتوب عليهم، ويدخلهم الجنة بينما هم يأبون، لذلك فإنه سبحانه رغَّب عباده المؤمنين بدعوة هؤلاء وتحبيبهم فيه علَّهم يفيقون من غفلتهم، ويعودون إلى ربهم.
تأمل قوله تعالى الذي يتفجر إشفاقًا ورحمة: ]قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ[ [الأنفال: 38]. وتأمل كذلك قوله: ]وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ[ [التوبة: 6].
هذا مع المشركين فما بالك مع العصاة من المؤمنين؟
وفي المقابل فإنه سبحانه يغضب أشد الغضب لمن يُيئس الناس من بلوغ رحمته ويُنذرهم بانقطاع الأمل، وبأنه لا مآل لهم إلا النار.
فإن كنت في شك من هذا فاقرأ هذا الحديث:
عن ضمضم بن جَوْس قال: دخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب صاحب لي فإذا رجل أدعج العين، براق الثنايا، فقال لي: يا تهامي لا تقولن لأحد لا يغفر الله لك، ولا يدخلك الجنة، قلت: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا أبو هريرة. قلت: قد نهيتني عن شيء كنت أقوله إذا غضبت على أهل بيتي وحشمي، قال: فلا تفعل فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كان رجلان من بني إسرائيل فكان أحدهما به رهق، والآخر عابدًا، فكان لا يزال يقول له: ألا تكف، ألا تقصر، فيقول: ما لي ولك دعني وربي. قال: فهجم عليه يومًا فإذا هو على كبيرة، فقال: والله لا يغفر الله لك، والله لا يدخلك الجنة، فبعث الله إليهما ملكًا فقبض أرواحهما، فلما قدما بهما على الله عز وجل قال للمذنب: ادخل الجنة برحمتي، وقال للعابد: حظرت على عبدي رحمتي، أكنت قادرًا على ما تحت يدي؟ انطلقوا به إلى النار».
قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده لقد تكلم كلمة أوبقت دنياه وآخرته([5]).
لذلك فإنه مما يروى عن أبي هريرة في هذا
أنه رضي الله عنه لقي الفرزدق وقد كان شاعرًا يقذف النساء، وكانت الناس تكره فيه ذلك،
فقال له: أنت الفرزدق؟ قال: نعم. فقال: أنت الشاعر؟ قال: نعم. فقال: أما إنك إن بقيت لقيت قومًا يقولون لا توبة لك، فإياك أن تقطع رجاءك من رحمة الله([6]).
([1]) أخرجه سعيد بن منصور وابن أبى شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ كما في الدر المنثور للسيوطي 3/45.
([2]) رواه البخاري ومسلم.
([3]) رواه ابن عساكر في أماليه عن أبى هريرة … وأورده الهندي في كنز العمال (10165).
([4]) أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 1/126.
([5]) رواه أبو داود (4901).
([6]) حسن الظن بالله لابن أبي الدنيا ص 69.