الكاتب: الدكتور سلمان العودة
حدث لي البارحة موقف لا يخلو من حرج !
وجدت نفسي أمام عسكري مدجج بالسلاح يطالبني ببطاقتي الشخصية، وحين أخذها أمرني بالوقوف، وهدّدني حين هممت بغير ذلك بما لا تحمد عقباه !
حين أقوم برواية هذه القصة؛ سأرويها من زاويتي الخاصة، بما لا يتفق في بعض جزئياته مع رواية الطرف الآخر ..هذا نوع من التذكر والرواية والحكي ..
مرّ الموقف بسلام ..
وخلال الليل تمّ استذكار الموقف لعشرات المرات بصورة سريعة.
مرّة تستعيد الذاكرة الحدث كما هو بتفصيلاته المثيرة عندي، والمملّة عند الآخرين ممن لا يعنيهم الأمر.
ومرة تستعيده الذاكرة مصعداً ومطولاً .. فتتخيل أنّ الرجل اضطرك إلى الرحيل معه إلى جهة ما، وتعرّف عليك مديره، وعاتبك، أو قدّم لك رقيق الاعتذار ..
أو تتخيل أن الأمر تطوّر إلى مضاربة واشتباك بالأيدي ..
أو تتخيل أن الأمور سارت بطريقة مختلفة، كأن تكون استجمعت حلمك وصبرك، وابتسمت، وجاريتَه في اندفاعه .. ماذا كان سيحدث؟
قد يسامحك .. ويقول: “هَالْمَرّة لك! ” ، أو يفتح محضراً للسؤال والجواب، ويعطيك الأوامر ألا تمرّ من هذا المكان مرة أخرى، أو أن تتعلم كيف تحترم رجل الأمن وكيف تتحدث معه ؟!
الذي حدث هو شيء واحد .. لكن كل جزئية منه قابلة لأن تسير بشكل مختلف عما حدث فعلاً، وهنا يعمل الخيال عمله، باتجاهات شتى ..
مراقبة تفكيري وأنا أستعيد الحدث مفيدة جداً لجهة إصلاح نفسي، واكتساب عادات جديدة في الفكر، أو عادات جديدة في السلوك، وهذا ما نحتاج أن نتدرب عليه مرة ومائة وألفاً !
واحدة من تخيلات كيف سيتجهُ الحدث مرت بي وأنا في صلاتي، ووجدت أني ركعت ورفعت وسجدت شارداً أتخيّل الموقف، كيف جرى، وبهذه السرعة، وماذا لو .. ؟
ماذا لو تجمّع الناس حولك، ولاحظوا كيف غضبت؟
أو كيف تعامل معك الجندي معاملة من يشعر أن ذاته تعرضت للاهتزاز، وليس وطنه وأمنه!
وثانية من التخيلات هاجمتني وأنا أتهيأ للنوم، وعرّضتني لأرق امتدّ لأكثر من خمس دقائق !
ثالثة صورت لي نمطاً مثالياً من التعامل تمثّل في ابتسامة هادئة، وتعامل راقٍ، واستجابة فورية، وصبر، وكبت لمشاعر الغيظ والغضب، حتى ينتهي الأمر بسلاسة، وهو حتماً سينتهي حينئذٍ بسلاسة حتى لو كنت شخصاً غريباً لا يعرفك الرجل ولا علاقة بينك وبينه، حتى لو كنت “أجنبياً” كما سيعبّر بعضهم، وهو تعبير يحمل دلالة عنصرية، سينتهي بهدوء؛ لأن الصبر وضبط الانفعالات والردود اللفظية والجسدية يحرج الطرف الآخر، ويضطره إلى التراجع .
واحدة من الاستعادات ذكّرتني بكلمة قلتها ضمن الحدث حين قدّم لي رئيسه الاعتذار .. “لم يكن من حقه أن يتصرف بهذه الطريقة بغض النظر عن كوني مواطناً أو أكبر منه سناً، حتى لو كان يتعامل مع “بنغالي”!
هذه كلمة تقول لصاحبها دعني، ليس ثمة داع أن يكون هذا الشعب مَضرِب المثل في التحقير، هذه عنصرية لم تكن خليقاً أن تتمثّلها أو تعبر بها، وقد كتب أحد الفضلاء مقالاً عن سير عدد من المبدعين والمخترعين من بنغلاديش، كان محمد يونس مؤسس بنك (جرامين) للفقراء، والحائز على جائزة نوبل هو أحدهم، ولا غرابة أن يُقيّض لهذا الشعب قادة مصلحون، يرتقون به إلى مستويات اقتصادية واجتماعية أفضل، وما قصة ماليزيا عنا ببعيد!
واحدة من هذه الاستعادات كانت حكاية القصة لأصدقائي ومن حولي، وهنا تظهر البطولة، وتتحفز الـ” أنا” لتعبّر عن ذاتها وتؤثّر في الصياغة، وتظهر الآخر بموقف النزق الطائش الذي لا يفهم شيئاً، بينما تختص ذاتها بالشجاعة أو بالصبر وضبط الأعصاب، أو بسرعة البديهة والرد ..
يا الله ..
كم يستنفذ تكرار الذكريات التي مرت بنا من أوقاتنا وأعمارنا ؟
وكيف نستفيد منه في ضبط ألسنتنا لتنضبط أفكارنا وتصرفاتنا ؟
(مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) [ق/18] حتى القول مع النفس”حديث النفس” هو محفوظ، وإن كان عفواً ما لم يتكلم أو يعمل ! كما في الحديث الصحيح المرفوع : « إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِى مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا ، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ » رواه البخاري.
وفي حديث أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ رَفَعَهُ قَالَ: « إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا » رواه الترمذي ، وأبو يعلى ، وابن خزيمة وغيرهم
يبدو أن الإنسان مدرسة لنفسه، لو أنه كاشفها وصارحها وخلا بها بعيداً عن عيون الناس وصبر عليها لفجّر من منابع الخير فيها، وجفف من منابع الشر والعدوان ما لا تصل إليه عيون الرقباء .