الإيمان والحياة

ولكن غزة لا بواكي لها

عشرون يوماً مضت …. منذ بدء العمليان العسكرية الهمجية الصهيونية على غزة وشعب غزة…
عشرون يوماً مضت …. وآلة الحرب الصهيونية تعيث في أرض غزة فساداً وتخريباً….
عشرون يوماً مضت …. وطيران العدو يدك الأرض دكاً بأسلحة قيل أنها محرمة دولياً وغير محرمة…
عشرون يوماً مضت …. والدمار والخراب هو العلامة البارزة التي يتركها الاحتلال بعد كل قصف ، وعقب كل توغل.
عشرون يوماً مضت …. وقد وقفت الحياة عن العمل في غزة فلا مدارس ولا مصانع ولا مؤسسات.
عشرون يوماً مضت …. وحرمات تٌنتهك ، وأطفال تُشرد ، ومساجد تُخرب ، ومنازل على رؤوس أصحابها تُهدم.
عشرون يوماً مضت …. وقد ارتقى مئات الشهداء وأصيب آلاف الأبرياء.
عشرون يوماً مضت …. وكل ما يحدث أمام مرأى ومسمع دول العالم ومنظمات حقوق الإنسان ، بل أمام كل دول العالم المتحضر منه والنامي.
عشرون يوماً مضت …. والقصف ينال من أماكن الإيواء التابعة لمنظمات دولية فيُقتل فيها الأطفال والنساء الذين لا عائل لهم .

بيد أن دماء المسلمين التي تُراق هدراً على أرض غزة لم تُحرك قلوب ومشاعر كل هؤلاء حتى جاء قرار مجلس الأمن بعد قرابة العشرة أيام بعد القتل المباشر الذي مارسه الصهاينة للأطفال والنساء والعجائز (جاء على استحياء) بوقف إطلاق النار.
قرار هم يعلمون جيداً أنه لا قيمة له ، بعد التلميح بالاستمرار في العدوان من البعض ، والتصريح من البعض الآخر بحق الصهاينة عن نفسها.

كل هذه المجازر وبحور الدم الطاهر للأطفال والنساء والعجائز والتي سالت على أرض غزة لم تُحرك مشاعر الرؤساء والزعماء العرب الذين يُفترض أنهم شركاء الدين واللغة لهذا الشعب المقهور.
بيد أن شراكة المصالح بين الزعماء العرب وسادتهم في الغرب والخوف على كرسي الزعامة هو المسيطر على نفوس الكثير من هؤلاء القادة ، فهذا الخوف وتلك المصالح أهم بكثير من شلالات الدم الذي يُراق على أرض غزة .
وبيد أن هذا الخوف وتلك الشركة قد دفعت البعض أن يغض الطرف طول فترة القصف الماضية وكأن الأمر لا يعنيهم.
ودفعت آخرين لتحميل المقاومة المسئولية ،ذلك المنطق المعوج الذي يُساوى فيه بين الجلاد والضحية.
ودفعت آخرين لأن يبثوا اليأس والخنوع والاستسلام في نفوس المقاومين حين وصفوا صواريخهم بالعبثية.
ودفعت آخرين لأن يُغلقوا المعابر (أبواب الأمل ) لمعالجة الجرحى والمصابين ، في تعاون سافر مع جيش الاحتلال.
ودفعت آخرين لأن يقمعوا المظاهرات السلمية ، ويعتقلوا الشرفاء المتعاطفين مع أهل غزة ، والزج بهم في المعتقلات والسجون في تحد سافر وغريب لمشاعر الناس وعواطفهم.
بل إن تلك الشراكة (شراكة المصالح والخوف) قد دفعت البعض لأن يُعلنوا أنه لم يمر أحد من المعابر إلا بإذن العدو الصهيوني.

بيد أن القومية العربية قد زالت واندحرت ، بعد أن سقطت الخلافة الإسلامية ، وبقي العرب والمسلمون بلا مظلة تجمعهم ، أو هدف يوحدهم ، وباتت سياسة المصلحة الشخصية هي المسيطرة على مراكز القرار.

جال بخاطري ذلك الموقف العظيم التي تحركت فيه مشاعر رجل مسلم ، انتهكت أمامه وفي حضرته حرمة امرأة مسلمة قد لا يعرف من هي ، أو من أي قبيلة هي ، سمعها تستصرخ فيه نخوة المسلم الحر الأبي عندما كشف يهودي مريض النفس سوءتها بعد أن راودها على كشف وجها فأبت ، فهبّ ذلك المسلم ملبياً لنصرتها ، لم يعنيه حينها حسابات سياسية ، ولم يعبأ كونه في وسط سوق غالبيته من اليهود ، ولم يخش الموت الذي لاقاه بالفعل لشجاعته.
جال بخاطري ذلك الحصار الذي فرضه الرسول صلى الله عليه وسلم على يهود حتى أجلاهم عن المدينة صاغرين.
لم أنسَ دور المنافقين الذين تدخلوا لحفظ دماء إخوانهم اليهود التي كان من المفترض أن تُقطع رقابهم جزاء ما صنعوا فقال رأس النفاق ” لا والله لا أرسلك حتى تُحسن في موالي ، أربعمائة حاسر ، وثلاثمائة دارع قد منعوني الأحمر والأسود ، وتحصدهم في غداة واحدة؟ إني امرؤ أخشى الدوائر.”

بيد أن موقف بعض الزعماء والقادة الآن لا يختلف كثيراً عن موقف هذا المنافق …
فبين قائل بيني وبيم اليهود عهود ومواثيق لا أستطيع نقدها وإن فني أهل غزة عن بكرة أبيهم.
وبين قائل لا أستطيع استخدام سلاح البترول من أجل غزة ، فأموال النفط لها مصارفها التي لا غنى عنها.
وبين قائل يجب أن نوقف صواريخ المقاومة فوراً حتى نوقف إسرائيل عن القتل.
فصار حرصهم على حياة يهود أكثر من حرصهم على حياة أهل ملتهم ، وصدق قول رينا”وترى الذين في قلوبهم مرض يُسارعون فيهم”
ومما يدعو للأسف أن بواكي غزة على مستوى القادة والزعماء لم يكونوا عرباً على طول الأرض العربية وعرضها ومن محيطها إلى خليجها ، وإنما جاءت من رئيس غير مسلم وفي بلد غير مسلم إنهما رئيسا فنزويلا وبوليفيا اللذان طردا السفير الإسرائيلي من بلادهما ولا تعليق.

لقد صدر قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار فوراً ، ويبدو أن كلمة فوراً عندما تكون في قرار ضد إسرائيل يعني المزيد من استخدام القوة والعنف والقصف .
ولكن إسرائيل لم توقف نيرانها ضد الآمنين ، ولن توقف حتى تُنهي مهمتها ، هكذا أعلنتها صريحة حتى تُحقق مصالحها العليا.
ولست أدري هل ماتت النخوة بالفعل في نفوس القادة والزعماء العرب والمسلمين ، حتى أنهم لم يردوا على مثل هذه التصريحات وقد زعموا أنه لا داعي لقمة عربية و أنهم سيوقفون هذا العدوان من خلال مجلس الأمن.
فماذا يعد أن ضربت إسرائيل باستجداءاتهم ، وبقرارات مجلس الأمن عرض الحائط.؟
وماذا بعد أن تبجح العدو وساء أدبه حتى مع معاونيه والمتواطئين معه؟
وماذا بعد أن خذلهم العدو وفضحهم أمام شعوبهم وأظهرهم في مظهر العاجز الضعيف أو العميل الخائن.

جال بخاطري الآن الشجاعة التي تحدث بها رئيس وزراء تركيا الذي خاطر بمستقبله السياسي وبمستقبل حزبه الإسلامي بموقفه المشرف والشجاع في مواجهة الصلف الصهيوني.
ذكرني ذلك بموقف جده الشجاع السلطان عبد الحميد خليفة المسلمين حينما عرض عليه اليهود بيع فلسطين فكانت إجابته العظيمة ” … لا أقدر أن أبيع ولو قدماً واحداً من البلاد لأنها ليست لي بل لشعبي ، ولقد حصل شعبي على هذا الإمبراطورية بإراقة دمائهم وقد غذوها فيما بعد بدمائهم وسوف نغطيها بدمائنا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها منا ، إنها لن تقسم إلا على جثثنا ولن أقبل بتشريحنا لأي غرض كان “

بيد أن زعماءنا وقادتنا لم يبيعوا الأرض فقط وإنما باعوا البشر أيضاً على أرض غزة خلال هذه الهجمة الشرسة والتصفية الجسدية المباشرة لهم.
وما هذا الصمت القاتل والتسويف المستغرب إلا دليل على التواطؤ السافر ، ودليل على الخذلان الكبير لأهل غزة.

ففي الوقت الذي يمارس الضغط الشديد على المقاومة لإلقاء السلاح ورفع الراية البيضاء والاستسلام والخضوع لمطالب الاحتلال الظالمة والجائرة ، وتصويرهم للرأي العام على أنهم المتسببون في هذه المجزرة .
نجد الجندي اليهودي يُدفع من قبل رؤسائه لممارسة القتل والإبادة العلنية لشعب غزة ، فلا فرق عنده بين طفل رضيع أو امرأة ضعيفة أو شيخ عاجز ، بل إنهم يربونه على التوسعية والطموح الذي لا ينتهي ، سُئل جندي يهودي من مراسلي أحد الصحف الأجنبية : ما هي حدود دولة إسرائيل ؟
وكان ذلك في أعقاب نكبة 5 يونيو 1967 فأجابه الجندي بكل صلف وغرور :”حيث أضع قدمي” وضرب بحذائه الأرض .
هكذا هي قناعات جندي عادي في صفوف جيش الاحتلال تُبنى على العنصرية ، وتهميش الآخر وعدم الاعتراف به ، والسياسة التوسعية على أنقاض الآخرين.

لقد مات الأطفال في غزة ولا بواكي لهم.
وهدمت المساجد على رؤوس السجود الركع في غزة ولا بواكي لهم.
وهدمت المنازل على رؤوس أصحابها في غزة ولا بواكي لهم.
وقُتل العجائز من الرجال والنساء في غزة ولا بواكي لهم .
ومات المرضى في المستشفيات موتاً بطيئاً ولا بواكي لهم.
وحُرم الناس في غزة الأمن والأمان ولا بواكي لهم.
حوصر شعب غزة في غزة ولا بواكي لهم.

يا أهل غزة صبراً
فلقد مات حمزة ولا بواكي له

محمد عبده