التربية الإيمانية

الإيمان واستباق الخيرات

هب أنك قد عُدت إلى منزلك في يوم من الأيام فوجدت رجلًا في انتظارك وبصحبته زوجته وأولاده

هذا الرجل يحمل معه رسالة من أحد أصدقائك الذين لا يمكنك أن ترد لهم طلبًا ، يخبرك فيها بأن حامل رسالته أخ لك في الله ، قد تعرض لمحن وابتلاءات كثيرة ، وهو الآن بلا مال ولا مأوى ، وعليك أن تستضيفه وعائلته في منزلك ، وأن تقتسم معه مالك ، وطعامك ، فضلًا عن مسكنك ، وليس لهذه الاستضافة مدة معلومة ، فقد تمتد شهورًا أو سنيناً …

فماذا تتوقع أن يكون رد فعلك تجاه هذا الأمر ؟!

هل ستكون سعيدًا بهذه الرسالة وما تحتويه ؟ أم سيضيق صدرك ويشتد غمك ، فالراتب لا يكفي إلا بالكاد ، والمسكن يضيق بأفراد الأسرة ، فكيف سيكون الحال لو تم اقتسام الراتب والمسكن بينك وبين أخيك ؟ وحتى إن كنت موسرًا ؛ فمن يتحمل أن يتعايش مع أُناس لا يعرفهم ولا يعرف طباعهم وأسلوب حياتهم ؟

لا أكتمك القول – أخي – بأنني قد تخيلت نفسي في هذا الموقف ، فتوقعت مقدار الحرج الذي سيصيبني ، ومدى الضيق الذي قد يتولد في صدري والذي قد يزيد بطول مدة الاستضافة ، ومن المتوقع أن تدور أمنيتي وقتها حول إمكانية كون هذا الرجل قد أخطأ في العنوان ، وأن المقصود شخص آخر غيري ، وقد أُسارع بالاتصال بمن كتب الرسالة محاولًا التملص من هذا العمل ، وأتعلل بظروف كثيرة تحول بيني وبين استضافة هذه الأسرة ، وإن وافقت على استضافتها فستكون موقوتة بمدة محددة ، وسأجتهد في أن تكون هذه المدة قصيرة قدر الإمكان …

هذا الموقف – الذي نتمنى ألا نتعرض له – قد تعرض له الأنصار في صدر الدعوة ، فلقد خرج المهاجرون فارين بدينهم من مكة تاركين فيها ديارهم وأموالهم ، وتوجهوا إلى يثرب تنفيذًا لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .. هاجروا إليها دون أن يكون لهم فيها مأوى ، ولم يكن معهم من الأموال ما يُمكنهم من الإنفاق على أنفسهم ، أو اقتناء مساكن تؤيهم ، وفي المقابل كان أهل المكان من الأنصار فقراء ، فضلًا عن أنهم لم يكن بينهم وبين المهاجرين سابق صلة أو معرفة ، ومع ذلك كان عليهم أن يستضيفوا إخوانهم المهاجرين استضافة كاملة .. فماذا كان تصرفهم تجاه هذا الأمر ؟!

تُجيبنا كتب السيرة بأنهم كانوا في سعادة غامرة بتلك الاستضافة إلى حد تسابقهم وتنافسهم فيما بينهم للفوز بكل مهاجريّ يصل إلى المدينة .. هذا التسابق والتنافس الذي كان على أشُده جعلهم يلجأون إلى إجراء القرعة لتحديد الفائز باستضافة الوافد الجديد .. نعم ، لقد حدث هذا ، حتى قيل : ما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة .

ولعلك – أخي القارئ – تعجب من هذا التصرف الذي نعجز عن القيام به ، ولعلك كذلك تتساءل معي : ما الذي جعلهم يصلون إلى هذا المستوى ، وهذا السلوك الذي يفوق طاقات احتمال البشر ؟

يُجيب القرآن على تساؤلاتنا ، ويبين لنا السبب الذي دفع هؤلاء الأنصار لهذا الإيثار العظيم مع فقرهم وشدة حاجتهم وذلك في قوله تعالى : ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ … ﴾ [الحشر/9] .

فالآية الكريمة تصف هؤلاء بأنهم تبوءوا الدار : أي استوطنوا يثرب قبل مجيء المهاجرين ، وتقول عنهم الآية كذلك بأنهم استوطنوا الإيمان..

ولكن كيف يُستوطن الإيمان ؟! أليس من المعلوم أن الإيمان هو الذي يدخل القلب ؟!

.. نعم هو كذلك ، ولكن من شدة تمكُّن الإيمان منهم : فكأنهم هم الذين دخلوا فيه واستوطنوه ، والدليل على ذلك هو هذا الفعل العجيب : الإيثار مع الحاجة ..

الأمر إذن واضح ؛ إن أردنا سلوكًا صحيحًا ، واستقامة جادة ، وأخلاقًا حسنة ، فعلينا بالإيمان ، فكلما ازداد الإيمان انصلح القلب ، فتحسنت الأفعال .

فمن أهم ثمار الإيمان الحي أنك تجد صاحبه مبادرًا ومسارعًا لفعل الخير ، يتحرك في الحياة وكأنه قد رُفعت له راية من بعيد فهو يسعى جاهدًا للوصول إليها مهما كلفه ذلك من بذل وتعب وتضحية .. تراه دومًا يبحث عن أي باب يقربه من رضا ربه والتعرض لرحمته ليندفع إليه مرددًا بلسان حاله : « لبيك اللهم لبيك .. لبيك وسعديك » .

ولقد قرر القرآن هذه الحقيقة في قوله تعالى : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ [المؤمنون/57-61] .

فالآيات تُعطي دلالات واضحة على أن أصحاب القلوب المؤمنة الخاشعة لربها هم أكثر الناس مسارعة للخيرات وأسبقهم إليها .

وهناك أمثلة كثيرة من حياة الصحابة -رضي الله عنهم- على ذلك:

فهذا جابر بن عبد الله رضي الله عنه يخرج ذات سنة إلى بلاد الروم غازيًا في سبيل الله ، وكان الجيش بقيادة مالك بن عبد الله الخثعمي ، وكان مالك يطوف بجنوده وهم منطلقون ليقف على أحوالهم ، ويشُد من أزرهم ، ويُولي كبارهم ما يستحقونه من عناية ورعاية ، فمر بجابر بن عبد الله ، فوجده ماشيًا ومعه بَغل له يمسك بزمامه ويقوده ، فقال له : ما بك يا أبا عبد الله ، لم لا تركب ، وقد يسر الله لك ظهرًا يحملك عليه ؟ ! فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من أُغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار» .

فتركه مالك ومضى حتى غدَا في مقدمة الجيش ، ثم التفت إليه ، وناداه بأعلى صوته ، وقال : يا أبا عبد الله ، مالك لا تركب بغلك ، وهي في حوزتك ؟! فعرف جابر قصده ، وأجابه بصوت عال وقال : لقد سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من أُغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار » ، فتواثب الناس عن دوابهم وكلٌ منهم يريد أن يفوز بهذا الأجر ، فما رُئِي جيش أكثر مشاة من ذلك الجيش([1]) .

وفي يوم من الأيام قَدِمتْ قافلة لعبد الرحمن بن عوف بها سبعمائة راحلة تحمل المتاع ، فلما دخلت المدينة ارتجت الأرض بها ، فقالت عائشة : ما هذه الرجة ؟ فقيل لها : عير لعبد الرحمن بن عوف .. سبعمائة ناقة تحمل البُر والدقيق والطعام ، فقالت عائشة : بارك الله فيما أعطاه في الدنيا ، ولثواب الآخرة أعظم . وقبل أن تبرك النوق كان الخبر قد وصل لعبد الرحمن بن عوف : فذهب إليها مسرعًا ، وقال : أشهدك يا أُمَّه أن هذه العير جميعها بأحمالها وأقتابها وأحلاسها في سبيل الله .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن ينبعثوا غازين (غزوة تبوك) ، فجاءت عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن معقل المزني ، فقالوا : يا رسول الله احملنا . فقال : « والله ما أجد ما أحملكم عليه » ، فتولوا ولهم بكاء ، وعَزَّ عليهم أن يُحبَسوا عن الجهاد ، ولا يجدون نفقة ولا محملًا . فأنزل الله عذرهم : ﴿ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ﴾ التوبة/92 .

إن صاحب الإيمان الحي لا يريد أن يسبقه أحد إلى الوصول للراية العُظمى .. راية رضا الله والتعرض لرحمته ومغفرته ودخول جنته ، لذلك تراه حزينًا حين تتحين أمامه فرصة للاقتراب من تلك الراية ولا يستطيع اغتنامها لأسباب خارجة عن إرادته كالمرض أو الفقر، وأما غيره من أصحاب الإيمان الضعيف -أو ممن لم يخالط الإيمان قلوبهم- فتجده إذا دُعي لفعل معروف تباطء واثاقل إلى الأرض، فإذا تجاوزه الأمر لغيره فرح بذلك ولم يبال بما فاته من الأجر.

( [1] ) أُسد الغابة ( 1/307 ) ، وتاريخ الإسلام للذهبي ( 3/143) ، وسيرة ابن هشام ( 3/217 ، 218) ، وحديث « من أُغبرت قدماه .. » أخرجه البخاري (1/308 ، رقم 865) ، وغيره .

( [2] ) الدر المنثور للسيوطي 3/479.