الإيمان والحياة

العلم بالله

كلما ازدادت معرفة الإنسان بالشيء تغيرت معاملته له، «فالمعاملة على قدر المعرفة».
ولأن واجبات العبودية من حب وخشية وطاعة وتوكل… ما هي إلا معاملات ينبغي أن يعامل بها العبد ربه؛ لذلك فإن نقطة البداية الصحيحة لتحقيق العبودية والتجلبب بها هي «معرفة الله» عز وجل، وكلما تعرف المرء على ربه أكثر كلما عامله بصورة أفضل، وكلما جهل المرء ربه كلما ابتعدت معاملته له عن الصورة المطلوبة ﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الزمر: 67].
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية ﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾ [الانفطار 6] ثم قال: جهله.
فكلما ازدادت معرفة الإنسان بربه ازداد حبه له، وافتقاره الدائم إليه، واعتماده عليه، واستسلامه المطلق له.
ولكي يعرف الإنسان ربه لابد وأن يجمع المعلومات عنه -سبحانه- والتي تحملها الكائنات التي تحيط به في كل مكان وزمان، وتحملها كذلك أحداث الحياة التي تمر به، بل إن الإنسان نفسه يحتوي على معلومات عن الله عز وجل لا توجد مجتمعة في مخلوق آخر ﴿ وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾[الذاريات: 20، 21].
ولقد منح الله عز وجل الإنسان الوسيلة التي من خلالها يستطيع أن يجمع المعلومات عنه سبحانه من جميع مخلوقاته، هذه الوسيلة هي العقل.
إذن فالحكمة العظمى من خلق العقل هو استخدامه في التعرف على الله عز وجل من خلال التفكر في مخلوقاته والتعرف على ما تحمله من معلومات عنه سبحانه ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 164].
وإن كان العقل هو محل العلم والمعرفة، فإن العلم الحقيقي الذي ينبغي أن ينشغل العبد بتحصيله هو العلم بالله عز وجل، وكيف لا ومن خلاله تتحقق العبودية الحقة له سبحانه، لذلك قال بعض المفسرين في قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56] أي: إلا ليعرفون.
لماذا؟!
لأنهم إذا عرفوه: أحبوه، وعظموه، وهابوه، وأطاعوه، وتوكلوا عليه…
جاء في الأثر أن موسى عليه السلام سأل ربه فقال: يا رب، أي عبادك أخشى لك؟
قال: أعلمهم بي.
إذن فتحصيل العلم بالله هو أهم غاية لخلق العقل، وأي علم آخر فينبغي أن يكون تابعًا له، وفرعًا منه.. ألم يقل سبحانه ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله ﴾ [محمد: 19].
فلكي يدرك المرء حقيقة التوحيد، ويوقن بها فإنه يحتاج إلى التعرف على ربه من خلال آياته الدالة عليه ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: 53].
وفي هذا المعنى يقول الحافظ ابن رجب:
أخبر سبحانه أنه ما خلق السماوات والأرض ونزل الأمر إلا لنعلم بذلك قدرته وعلمه، فيكون دليلاً على معرفته ومعرفة صفاته، كما قال تعالى: ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق: 12].
وأخبر أنه إنما يخشاه من عباده العلماء، وهم العلماء «به».
قال ابن عباس في قوله: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28].
قال: أي إنما يخافني من عبادي من عرف جلالي وكبريائي وعظمتي.
فأفضل العلم العلم بالله، وهو العلم بأسمائه وصفاته، وأفعاله التي توجب لصاحبها معرفة الله وخشيته ومحبته وهيبته وإجلاله وعظمته، والتبتل إليه، والتوكل عليه، والرضا عنه، والاشتغال به دون خلقه.
ويتبع ذلك العلم بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتفاصيل ذلك، والعلم بأوامر الله ونواهيه وشرائعه وأحكامه، وما يحبه من عباده من الأقوال، والأعمال الظاهرة والباطنة، وما يكرهه من عباده من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة
من هنا يتأكد لدينا أن العلم النافع هو الذي يؤدي إلى تحقيق التوحيد قولا وعملا، أو بمعنى آخر: هو الذي يؤدي إلى تحسين المعاملة مع الله عز وجل فيزداد المرء له خشية وطاعة ومحبة وإنابة واستقامة على صراطه المستقيم، فإن لم يُؤدِّ العلم الذي يتعلمه المرء إلى ذلك صار علما غير نافع.
وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «أعوذ بالله من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع»
ولكي ندرك أكثر وأكثر غاية العلم علينا أن نتذكر غاية وجود الإنسان على الأرض والتي تتمثل في تحقيق العبودية الحقة لله عز وجل وما تشمله من معان مختلفة يقف على رأسها: طاعته سبحانه، وخشيته، ومحبته، والشوق إلى لقائه، والأنس به، ودوام الإنابة إليه، والاستسلام له، والاستعانة به، والتضحية من أجله، وإقرار شرعه.
ولأن هذه المعاني لا يمكن تحقيقها إلا من خلال المرور من باب «المعرفة» بالله عز وجل -كما أسلفنا- كانت غاية العلم هي: «التعرف على الحقائق التي تصل بالمرء إلى تحقيق العبودية لله عز وجل بمعانيها المختلفة».
بهذا ندرك مفهوم العلم النافع ومدى ارتباطه بتحسين المعاملة مع الله عز وجل، وبهذا المفهوم -أيضًا- يمكننا التعرف على مدى قُرب أو بعد العلوم المختلفة من العلم النافع، مع الأخذ في الاعتبار أن معرفة الأحكام الشرعية، وما يرضي الله عز وجل وما يبغضه من الأهمية بمكان، وهي تحتل المرتبة التالية للعلم بالله عز وجل وآياته وأفعاله في خلقه، وذلك لضرورتها في تحقيق العبودية الحقة له سبحانه، فالذي امتلأ قلبه خشية لله عز وجل يحتاج أن يعرف ما الذي يُرضي ربه فيفعله، وما الذي يبغضه فيتجنبه.
من هنا نقول أن العلم الحقيقي الذي ينبغي أن ينشغل به العقل -أول ما ينشغل- هو العلم بالله عز وجل، وأن أي علم آخر ينبغي أن يكون تاليا له، منطلقًا منه.
إن علم التوحيد الحقيقي هو «الباب الأعظم» الذي ينبغي أن ندخل منه جميعًا، وبعد ذلك ندخل إلى العلوم المختلفة حتى نتمكن من الاستفادة الحقيقية منها في تحقيق العبودية لله عز وجل، فإن لم يحدث هذا، وبدأ المرء في تعلم العلوم المختلفة متجاوزًا العلم بالله عز وجل فإن مقصود هذه العلوم لن يتحقق بالصورة المطلوبة.
بعد أن تعرفنا على الوظيفة الأساسية للعقل، والحكمة من خلقه يمكننا القول بأن هدف التربية المعرفية هو: إنماء العقل وتوسيع مداركه، وفتح نوافذه، وإكسابه التلقائية في التفكير في كل شيء يحدث حوله والاعتبار به، والتعرف من خلاله على الله عز وجل وعلى حتمية العودة إليه ﴿أَوَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَّكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ﴾ [الأعراف: 185].
أو بعبارة أخرى:
المطلوب من المسلم إنماء عقله من خلال تحصيل العلم الراسخ النافع بالله عز وجل والذي يؤدي إلى تحسين المعاملة معه -سبحانه-، وأي علم آخر يريد أن يتعلمه الإنسان ينبغي أن يتم الدخول إليه من هذا الباب.. «باب التوحيد» ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ﴾ [محمد: 19].