كلما قوِي الإيمان، ازدادت حساسية الفرد تجاه الوقوع أو مجرد الاقتراب من الشبهات والمحظورات، والعكس صحيح، فكلما ضَعُف الإيمان نقصت تلك الحساسية.. يقول عبد الله بن مسعود: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مَرَّ على أنفه، فقال به هكذا (أي: نحَّاه بيده أو دفعه ).
معنى ذلك أن درجة إيمان الفرد يعكسها شعوره وحساسيته تجاه الذنوب، وفي أي الاتجاهين تكون..
.. هل تقترب من حال من يقعد تحت صخور جبل مهدد بالانهيار في أي لحظة، أم من حال من تمر ذبابة على أنفه ؟
من هنا نقول بأن الإيمان الحي هو الذي يضبط سلوك الإنسان، كما يقول الإمام حسن البنا أنه: (يترك مع كل نفس رقيبًا لا يغفل، وحارسًا لا يسهو، وشاهدًا لا يُجامل ولا يحابي، ولا يضل ولا ينسى… يصاحبها في الغدوة والروحة، والمجتمع والخلوة، ويرقُبها في كل زمان، ويلحظها في كل مكان، ويدفعها إلى الخيرات دفعًا، ويدعُّها عن المآثم دعًّا، ويجنبها طريق الزلل، ويبصرها سبيل الخير والشر) [رسالة هل نحن قوم عمليون؟].
.. في يوم من الأيام ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنواع الخيل وأنها لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر.
فسئل عن الحُمُر ؟ قال: « ما أنزل الله عليّ فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة/7، 8].
فعندما يزداد الإيمان بأن هناك حساب على اليسير من العمل – ولو كان مثقال ذرة كما تُشير الآيات – فإن ذلك من شأنه أن يدفع المرء للتحرك بحساسية وحذر شديدين تجاه التعامل مع جميع الأشياء.
.. نعم، هذا هو أهم قانون لضبط السلوك ومهما وُضِعت القوانين الصارمة في المجتمعات لضبط سلوك الأفراد فلن تؤتي ثمارها إلا إذا بُدئ بإصلاح الإيمان في القلوب لتكون من ثمرته: تقوية الوازع الداخلي… وصدق من قال:
لا تنتهي الأنفس عن غيّها… ما لم يكن لها من نفسها دافع
يقول أبو الأعلى المودودي: إن الإيمان يزرع في داخل الإنسان حارسًا من الشرطة يدفعه إلى العمل ويحثه على الائتمار بأوامر الله عز وجل.. هذا الوازع النفسي ، والحارس الداخلي هو الذي يشد عضد قانون الإسلام الخلقي والسلوكي ويجعله نافذًا بين الناس في حقيقة الأمر..هذا الإيمان هو الذي يضمن هداية الفرد المسلم، والأمة المسلمة إلى سواء الطريق إذا ما كان قد تمكن من القلب.
.. جاء رجل فقعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن لي مملوكين يَكذِبونني، ويخونونني، ويعصونني، وأشتمهم وأضربهم، فكيف أنا فيهم ؟!، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا كان يوم القيامة يُحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك، وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافًا، لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلًا لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم.. اقتُص لهم منك الفضل، فتنحى الرجل، وجعل يهتف ويبكي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: » أما تقرأ قوله تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء/47].
فقال الرجل: يا رسول الله ما أجد لي ولهؤلاء شيئًا خيرًا من مفارقتهم، أشهدك أنهم كلهم أحرار.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لأبي بكر غلام يُخرج له الخراج، وكان أبو بكر يُخرج من خراجه فجاء يومًا بشيء ووافق من أبي بكر جوعًا، فأكل منه لقمة قبل أن يسأل عنه، فقال له الغلام: تدري ما هذا ؟ فقال أبو بكر: وما هو ؟، قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أُحسن الكهانة ولكني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه.. فماذا فعل أبو بكر عندئذ ؟! فعل فعلا عجيبًا.. أدخل أصبعه في فمه فقاء كل شيء في بطنه..
وروى ابن جرير الطبري في تاريخه، قال: لما هبط المسلمون المدائن، وجمعوا الأقباض أقبل رجل بحق معه فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال والذين معه: ما رأينا مثل هذا قط، ما يعدله ما عندنا، ولا يقاربه، فقالوا: هل أخذت منه شيئًا ؟ فقال: أما والله لولا الله ما أتيتكم به، فعرفوا أن للرجل شأنًا، فقالوا: من أنت ؟، فقال: لا والله لا أخبركم لتحمدوني ولا غيركم ليقرظوني: ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه، فأتبعوه رجلًا حتى انتهى إلى أصحابه فسأل عنه فإذا هو عامر بن عبد قيس.