مواقف تربوية

الرسول المعلم

الكاتب: د. هاني السقا

قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في كتابه (الرسول المعلم):
روى مسلم وأبو داودواللفظ لمسلم ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : ((أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجدنا هذا ، وفي يده عُرْجونُ ابنِ طاب ، فرأى في قِبلةِ المسجد نُخامةً ، فحكَّها بالعُرْجون.
ثم أقبل علينا فقال : أيكم يحب أن يُعرِضَ الله عنه؟! قال : فخَشَعْنا ، ثم قال : أيُّكم يُحِبُّ أن يُعرِضَ الله عنه؟! قال : فخشعنا ، ثم قال : أيكم يحب أن يُعرض الله عنه؟ قلنا : لا أَيُّنا يا رسول الله.
قال : فإنَّ أحدكم إذا قام يصلي ، فإن الله تبارك وتعالى قِبَلَ وجهه ، فلا يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وجهه ، ولا عن يمينه ، ولْيَبصُقْ عن يساره تحتَ رِجْلِه اليُسرى(1) ، فإن عَجِلَتْ به بادرة ، فلْيَقُلْ بثوبه هكذا ، ثم طَوى ثوبَه بعضَه على بعض ـ وفي رواية أبي داود : ووضَعَ ثوبَه على فيه ثم دَلَكه ـ .
ثم قال : أَروني عَبيراً(2) ، فقام فتىً من الحيّ يَشتَدُّ إلى أهلِه(3) ، فجاء بخَلوقٍ في راحَتِه ، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعَلَه على رأسِ العُرْجون(4) ، ثم لَطَخَ به على أَثَر النُّخامة(5) .
قال جابر : فمن هنا جَعلتُم الخَلوقَ في مَساجِدكم))(6)

(1) إنما يسوغ هذا الفعل في أثناء الصلاة ، وفي داخل المسجد ، إذا اضطرَّ إليه المصلي ، وكانت أرض المسجد تراباً أو رملاً أو حصى أو نحو ذلك ، كما كانت المساجد في العهد النبوي . أما إذا كان المسجد مبلَّطاً أو مجصَّصاً أو مفروشاً بشيء ، كما هي حالُ المساجد اليوم ، فيتعيَّن على المصلي البُصاق في ثوبه إذا احتاج إليه ، إذْ تجب صيانة المسجد عن كل مستقذَرٍ أو مكروهٍ أو مُذهِبٍ للنظافة . ورحم الله الإمام البخاري ورَضِيَ عنه ، ما أجلَّ ورعَه وأشدَّ رعايتَه للمسجد ، حكى الحافظ ابن حجر في ((هَدْي الساري مقدمة فتح الباري)) 2 :196 ، في خلال ترجمة الإمام البخاري ، قال رحمه الله تعالى : ((قال محمد بن منصور : كنا في مجلس أبي عبد الله البخاري ، فرفَعَ إنسانٌ قَذاةً من لحيته وطَرَحها إلى الأرض . فرأيتُ البخاري ينظر إليها وإلى الناس ، فلما غفل الناس ، رأيتُه مدَّ يدَه فرفع القذاة من الأرض فأدخلها كُمَّه ، فلما خرج من المسجد رأيته أخرجها وطرحها على الأرض)) .انتهى .
فقد صان الإمام البخاري أرضَ المسجد عما تُصانُ عنه لِحيتُه ، إنها بصيرةُ العلم والعمل ، (فبهُداهُمْ اقْتَدِهْ) .
(2) ـ أي هاتوا لي عبيراً . والعَبير ـ مثلُه الخَلوقُ الآتي ذكره بعد قليل ـ أنواعٌ من الطيب تُجمع وتُخلط بالزعفران .
(3) ـ أي يسعى ويعدو عدواً شديداً .
(4) ـ أي على رأس العود الذي كان بيده صلى الله عليه وسلم .
(5) ـ أي مسحَ به أثر النخامة ليُزيل الطيِّبُ الخبيثَ .
(6) ـ في هذا الحديث الشريف من الأمور التعليمية :
إعادةُ الكلمة ثلاثاً ، لتَبْلُغَ من نفوس المخاطبين كلَّ مبلغ .
وفيه : البيان بالفعل ، ليكون أوقع في نفس السامع ، وليكون أوضح دلالةً على ما يُرادُ تعليمُه .
وفيه : عِظَمُ تواضع الرسول صلى الله عليه وسلم ، إذ باشَرَ حكَّ النخامة بنفسه .
وفيه : تقبيحُ المنكر باللسان .
وفيه إزالة المنكر باليد لمن قَدَر عليه .
وفيه من الفقه والأحكام الشرعية الاجتماعية :
طلَبُ إزالة ما يُستقذَرُ أو يُتنزَّه عنه ، من المسجد .
وفيه : تعظيمُ المساجد وصيانتُها من كل ما يكدِّرُها من الأوساخ ونحوها .
وفيه : أن البزاق والمخاط والنخامة ـ على تقزُّر النفوس منها ـ طاهرة ، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم تَفَل في ثوبه وأراهم كيف يفعل من بادَرَه وغلَبَه البصاق .
وفيه : أن البصاق في الصلاة لا يبطل الصلاة ، وكذا التنخُّم ، إن لم يتبين منه حَرْفانِ أو كان مغلوباً عليه .
وفيه : احترامُ جهة القِبلة وتعظيمها .
وفيه : أنه إذا بزَقَ يبزق عن يساره ، ولا يبزق أمامه للقبلة تشريفاً للقبلة ، ولا عن يمينه تشريفاً لليمين ولو كان خارج الصلاة، وإنما يبزق عن يساره ما لم يكن مانع ، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : ما بصقتُ عن يميني منذ أسلمت .
وفيه : أن التحسين أو التقبيح إنما هو بالشرع ، فإن جهة اليمين مفضلة على اليسار ، وإن اليد مفضلة على القدم ، وإن يوم الجمعة مفضل على سواه . وأخطأ أبو الطيب المتنبي إذ جعَلَ ذلك التفضيلَ من باب الجَدّ والحظّ ، لا من باب الشرع والنقل فقال :
هو الجَدُّ حتى تَفضُلُ العينُ أختَها وحتى يكونَ اليومُ لليومِ سيِّدا
وفيه : الحثُّ على الاستكثار من الحسنات وإن كان صاحبها مَلِيّاً ، لكون النبي صلى اللهعليه وسلم ـ هو سيد الأنبياء والمتقين ـ باشر الحكَّ بنفسه صلوات الله وسلامه عليه .
وفيه : مشروعيةُ تطييب المساجد .
وفيه : تفقُّدُ الإمام الأعظم حالَ المساجد وتعهدُها . وهي حَرِيّةٌ بالتعهد والعنايةِ كلَّ العناية من إمام المسلمين ، لأنها مجامع المسلمين ، ومواطن عبادتهم ، ومدارس تعليمهم وثقافتهم ، ومنتداهم ومجلس شوراهم ، ومركز قيادتهم ، ومنطلق جيوشهم ، وموئل لقائهم ، ومتعلَّقُ قلوبهم وأفئدتهم ، وملتقى الوفود لديهم … فما أحراها بالتفقد والاهتمام .