الإيمان والحياة

التحرر من قيود الدنيا

كان الصحابة أكثر الخلق عبودية لله عز وجل بعد الرسل، ومن ثَّم كانوا أكثر الخلق حرية من الدنيا، لقد كانت صفة الزهد في الدنيا من أبرز الصفات التي ميزتهم عما سواهم…

يقول عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – لمن بعده من التابعين: أنتم أكثر صومًا وصلاة من أصحاب محمد وهم كانوا خيرًا منكم. فقالوا: وبمَ ذلك؟، قال: كانوا أزهد منكم في الدنيا، وأرغب في الآخرة. [حياة الصحابة 2/96]

لقد كانوا يخافون من بسط الدنيا، فهذا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أتته غنائم القادسية، فجعل يتصفحها وينظر إليها وهو يبكي ومعه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فقال عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين هذا يوم فرح وسرور، فقال: أجل، ولكن لم يؤت هذا قوم قط إلا أورثتهم العداوة والبغضاء. [حياة الصحابة 2/97]

وهذا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يدخل على سلمان رضي الله عنه يعوده، فبكى سلمان، فقال سعد: ما يبكيك؟ تلقى أصحابك، وترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم الحوض، وتُوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راض! فقال: ما أبكي جزعًا من الموت ولا حرصًا على الدنيا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا فقال: (ليكن بُلغة أحدكم من الدنيا كزاد الراكب) وهذه الأوساد حولي، وإنما حوله مِطْهرة أو إنجاتة [إناء تغسل فيه الثياب] ونحوها.

– مفهوم التهلكة:

لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يدركون أن التهلكة ليست في الموت في سبيل الله بل في الركون إلى الدنيا.

عن أبي عمران رضي الله عنه قال: حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه، ومعنا أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه، فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة. فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية، إنما نزلت فينا. صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدنا معه المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإسلام وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما، فنزل فينا: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ (البقرة:195)، فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد. [حياة الصحابة 1/360]

– جيل الأحرار:

حاولت قريش مساومة صهيب الرومي رضي الله عنه على عدم الهجرة إلى المدينة أو ترك ماله الذي جمعه نظير عمله عندهم فماذا فعل صهيب؟!

قال لهم: أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تتخلون عني؟ قالوا: نعم، يقول صهيب: فدفعت إليهم مالي فخلوا عني فخرجت حتى قدمت المدينة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال (ربح صهيب، ربح صهيب) مرتين، وفيه وفي أمثاله نزلت الآية: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ﴾(البقرة:207). [تفسير ابن كثير 1/216]

– الزهد في المال:

ومما يدل على أن طموح الصحابة كان في زيادة رصيدهم من نعيم الآخرة هو كثرة إنفاقهم للمال مع شدة حاجتهم إليه، فإن كنت في شك من هذا فتأمل معي هذا الخبر:

لما أتى عمر الشام، طاف بها ونزل بحمص، فأمر أن يكتبوا له فقراءهم، فرُفع إليه الكتاب، فإذا فيه سعيد بن عامر ” أميرها “.

قال: من سعيد بن عامر؟ قالوا: أميرنا ! قال: أميركم؟ قالوا: نعم، فعجب عمر فقال: كيف يكون أميركم فقيرًا؟ أين عطاؤه؟ وأين رزقه؟، قالوا: يا أمير المؤمنين، لا يمسك شيئًا، فبكى عمر، ثم عمد إلى ألف دينار، فصرَّها – أي وضعها في صُرَّة – ثم بعث إليه بها، وقال: أقرئه السلام وقل: بعث بها إليك أمير المؤمنين تستعين بها على حاجتك.

فجاء بها إليه الرسول، فنظر، فإذا هي دنانير، فجعل يسترجع ! وتقول له امرأته: ما شأنك؟ أمات أمير المؤمنين؟ قال: بل أعظم من ذلك، قالت: فما شأنك؟ قال: الدنيا أتتني الفتنة دخلت عليَّ ! قال: فاصنع فيها ما شئت. قال: عندك عَوْن؟ قالت: نعم. فأخذ ذريعة له، فصر دنانير فيها صُررًا، ثم جعلها في مِخلاة، ثم اعترض بها جيشًا من جيوش المسلمين، فأمضاها كلها.[الرقة والبكاء لابن قدامة: 258، 259]