الإيمان والحياة

التكامل التربوي

عقل المسلم يحتاج إلى التغذية الدائمة بالمعرفة النافعة حتى يكتمل نموه، وتتفتح نوافذه، وتتسع مداركه.

.. وقلبه بحاجة إلى إيمان متجدد حتى يستضيء، وينفتح ويصبح قلبا سليما.

.. ونفسه بحاجة، إلى ترويض وتزكية حتى يسلس قيادها وارتداؤها رداء العبودية لله عز وجل.

.. أما حركة المسلم فهي بحاجة إلى توجيه مستمر حتى يكون له أثر نافع في الحياة، وحتى يحقق -من خلال ذلك الأثر- مراد ربه من وجوده كمسلم يحمل طوق النجاة للبشرية جمعاء.

.. هذه الأمور الأربعة لا يكفي لتحقيقها اهتمام لحظي، أو إمداد عابر، بل لا بد من دوام الإمداد والرعاية حتى يظهر الأثر المطلوب.

  • فالعقل بحاجة إلى دوام التغذية بالعلم النافع الذي يُعَرِّفه بربه، ويعرفه بأوامره ونواهيه، وما يرضيه وما يغضبه، ويعرفه كذلك بكيفية تحقيق مراده سبحانه بنشر دينه، وإسعاد خلقه بالإسلام، وما يستدعيه ذلك من أن يكون عالما بزمانه، فاهما لدينه، مدركًا لأحوال المخاطبين، وبيئاتهم المختلفة.

ويلحق بالعلم النافع معرفة كل ما من شأنه أن يُيَسر على المسلم أداء حقوق العبودية لله عز وجل.

وعندما يغذي المرء عقله بمعلومات عشوائية يسمعها في (فضائية)، أو يقرؤها من خلال تصفحه للشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، أو بقراءته بضع صفحات من كتاب.. فالغالب أن هذا كله لن يُحدِث الأثر الذي تحدثنا عنه، بل سيكون أثره لحظيا، ناهيك عن نوعية ما يقرأ، ومدى قربه أو بعده عن مفهوم العلم النافع.

أما إذا أردنا أثرًا تربويا حقيقيًا للعلم النافع فلابد من الاستذكار والمدارسة، والصبر على الكتاب حتى نهايته، مع استخراج الجديد والمفيد منه.

إحسان العمل أولاً:

أما بخصوص القلب: فلكي يتنور، ويصبح قلبًا سليما لابد من دوام إمداده بالإيمان حتى تتحرر إرادته من أسر الهوى، ومن ثم يسهل على صاحبه اتخاذ القرار بالعمل الصالح في أي وقت، وأي اتجاه.ـ بإذن الله ـ

وليس المطلوب لتحقيق مستهدف «التربية الإيمانية» هو الإكثار من الأوراد والأعمال الصالحة فقط دون النظر إلى كيفية أدائها والأثر الناتج عنها، بل المطلوب هو الاجتهاد في حضور القلب وتحركه وانفعال المشاعر وتأثرها وتجاوبها مع العمل، “الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا”[الأنفال: 2].

وعندما لا يحدث التأثر والانفعال مع العمل فهذا معناه أن القلب لم يستفد منه بزيادة الإيمان فيه، وهذا قد يفسر لنا سبب التناقض في شخصية البعض ممن تراه محافظا على الصلوات، ومكثرا من النوافل والأوراد ومع ذلك فهو لا يتورع عن الكذب، أو الغش، وقد تراه يحرص على المال ويسيء معاملة من حوله.

فالتشخيص الصحيح لهذه الحالة أن أثر الأعمال الصالحة لم يصل للقلب، ولم يزد الإيمان فيه، ومن ثم لم يثمر تحسنا في السلوك، لذلك كان من دعائه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «اللهم إني أعوذ بك من صلاة لا تنفع»([1]).

وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة والقلب ساهٍ([2]).

ويقول ابن رجب: كان السلف يوصون بإتقان العمل وتحسينه دون الإكثار منه، فإن العمل القليل مع التحسين والإتقان أفضل من الكثير مع الغفلة وعدم الإتقان. وقال بعضهم:إن الرجلين ليقومان في الصف، وما بين صلاتهما كما بين السماء والأرض([3]).

احذر نفسك:

ومع دوام إمداد القلب بالإيمان على المرء ألا ينسى نفسه، أو يغفل عنها، وعليه أن يسيء الظن بها، مع مجاهدتها دوما على لزوم الصدق والإخلاص لله عز وجل، وعدم التوجه بالعمل لغيره سبحانه، وكذلك فإن عليه أن يربي نفسه على الاستعانة بالله في أموره كلها، وأن يضبط فرحه بعد نجاحه في أداء العمل، وأن يجعل هذا الفرح: فرحًا بالله وبفضله أن أعانة ووفقه على إتمام هذا العمل، وعليه أيضا أن يربي نفسه على نكران الذات، والتواضع، وأن يكون عند نفسه صغيرا، وأن يرى الناس جميعًا أفضل منه، وأن يلازمه الشعور باليأس من النجاة بعمله، وأن عمله مهما كثر فلن يوفي مثقال ذرة من حق الله وديَنْه المستحق، وأن يوقن بأن نجاته متعلقة بعفو الله عنه ورحمته إياه..

.. هذه المعاني لا يكفي مجرد معرفتها لكي تتحقق، بل لابد من ممارستها، والتربية عليها، واختبار النفس دوما فيها.

الحركة المباركة:

ومع الاهتمام بالتربية المعرفية والإيمانية والنفسية لابد من الاهتمام كذلك بالتربية الحركية التي تهدف إلى التعود على بذل الجهد في سبيل الله وتبليغ دعوته.

ولا يكفي أن يتحرك ويبذل جهده من أجل خدمة دينه حسبما تتحين ظروفه، بل ينبغي أن تشكل عنده «منهج حياة»، وأن يضعها في أولوياته عندما يخطط لوقته.

ماذا لو أُهملت التربية؟

هذه المحاور الأربعة للتربية علينا الاهتمام بها جميعًا، وعدم التركيز على محور دون الآخر، ولو حدث هذا لكان النتاج: تشوه في الشخصية، وعدم ظهور ثمرة التربية المتكاملة والتي تتمثل في وجود المسلم الصالح المصلح الذي تتأسس عليه الأسرة المسلمة فالمجتمع المسلم ، فعندما يحدث اهتمام بتحصيل العلم دون الاهتمام بزيادة الإيمان، فستكون النتيجة المتوقعة: شخص كثير التنظير، حافظًا للنصوص، كثير الحديث عن القيم والمبادئ والمعاني العظيمة، لكنك تجد في المقابل واقعا يختلف عن الأقوال والتنظيرات، فهو يتحدث عن العدل والمساواة، بينما لا يتعامل هو مع الآخرين بهذه القيم وبخاصة مع من يرأسهم..يتحدث عن الزهد في الدنيا وأهمية العمل للآخرة في حين يحرص على جمع المال، وينفق منه بحساب شديد، ويدقق في كل شيء، وفي أتفه الأمور.

.. كل هذا وغيره بسبب عدم الاهتمام بالإيمان بنفس درجة الاهتمام بالعلم، فالذي يقرب المسافة بين القول والفعل، ويترجم العلم إلى سلوك هو الطاقة والقوة الروحية المتولدة من الإيمان .

أما عندما يتم الاهتمام بالإيمان دون العلم فستجد أمامك شخصا جاهلا مشوها يتشدد فيما لا ينبغي التشدد فيه، ويترخص فيما لا ينبغي الترخص فيه.

ستجد شخصا ضيق الأفق لا يستطيع أن يتعامل مع فقه الواقع ومستجدات العصر، ولعل في قصة التائب -قاتل المائة- ما يؤكد ذلك، فهذا الرجل الذي كان قد قتل تسعًا وتسعين نفسا ثم تاقت نفسه للتوبة فسأل عن أعبد الناس فدلوه على راهب، فذهب إليه وأخبره بما فعله ثم سأله: هل لي من توبة؟!! فكانت إجابته بالنفي تعكس مدي جهله بالله عز وجل الغفور الرحيم، فما كان من الرجل إلا أن قتله بعد أن يأَّسه من التوبة، ليكمل به الضحية المائة.

وبعد ذلك تاقت نفسه مرة أخرى للتوبة، فسأل عن أعلم الناس، فدلوه على عالم بمفهوم العلم الصحيح ألا وهو العلم بالله وبأحكامه فذهب إليه وسأله: هل لي من توبة بعد كل ما فعلته؟!، فطمأنه هذا العالم، وأجابه بأن له توبة فالله -عز وجل- يغفر الذنوب جميعًا، ثم طلب منه أن يغادر بلدته إلى بلدة أخرى حتى تحسن توبته بوجوده في وسط طيب لا يُذَكِّره بماضيه.

فما أضر على الإنسان من الجهل!! وما أخطر على الإنسان من ضعف الإيمان!!

أعلم ولكن لا أستطيع:

.. وفي حالة الاهتمام بالتربية النفسية والتعرف على النفس ومدى خطورتها على الإنسان مع إهمال التربية الإيمانية الصحيحة، فمن المتوقع أن تجد أمامك شخصا كثير النقد لنفسه، حزينًا على حاله وكيف أنه يكثر من الحديث عن نفسه وإنجازاته، لكنه لا يستطيع ترك ما يتضايق منه لأنه لا يجد القوة الدافعة لجهاد نفسه ألا وهي قوة الإيمان.

عبادة الذات:

أما في حالة الاهتمام بالعلم والإيمان مع عدم الانتباه للنفس، وإهمال تزكيتها، فسيكون النتاج: شخص كثير العبادة، كثير المعلومات.. سبَّاق لفعل الخير وبذل الجهد، لكنه متورم في ذاته،لا يرى نفسه إلا بعدسة مكبرة، ويرى غيره بعكس ذلك، لأن عبادته وأوراده وبذله في الغالب سيغذى إيمانه بنفسه وبقدراته وأنه أفضل من غيره، فيتمكن منه -بمرور الأيام واستمرار الإنجازات والنجاحات – داء العجب، ومن ورائه الغرور والكبر والعياذ بالله، فيعرض نفسه لمقت ربه وحبوط عمله.

جاء في الأثر: قال تعالى: يا داود إني قد آليت على نفسي أن لا أثيب عبدًا من عبادي إلا عبدًا قد علمت من طلبه وإرادته وإلقاء كنفه بين يدي أنه لا غنى له عني… وأنه لا يطمئن إلى نفسه بنظرها وفعالها إلا وكلته إليها([4])…

تفريغ الطاقة وبذل الجهد:

ومع ضرورة الاهتمام بالتربية المعرفية والإيمانية والنفسية تأتي كذلك أهمية التعود على بذل الجهد في سبيل الله وفي دعوة الناس إليه، فلو لم يتحرك المسلم، ويعلم الناس ما تعلمه، ويأخذ بأيديهم لتغيير ما بأنفسهم بإذن الله فإنه سيصاب بالفتور والخمول والكسل، ولن يدرك أسرار الكثير من المعاني التي يتعلمها، وكيف لا، وهو لا يمارسها في الواقع العملي، كالبئر التي إذا ما تُركت ولم يستخدمها الناس أسِنت وغاض ماؤها وجفت.

فعلى سبيل المثال: القرآن الكريم الذي يعد بمثابة المصدر الأول للعلم والإيمان وتزكية النفس لا يدرك أسراره قاعد -كما يقول سيد قطب- ولا يعلم مدلولاته إلا إنسان يؤمن به ويتحرك به([5]).

ويقول: والذين يتلمسون معاني القرآن ودلالاته وهم قاعدون، يدرسونه دراسة بيانية أو فنية لا يملكون أن يجدوا من حقيقته شيئًا في هذه القعدة الباردة الساكنة بعيدًا عن الحركة… إن حقيقة القرآن لا تنكشف للقاعدين أبدًا([6]).

خطورة الحركة بدون زاد:

وفي المقابل ، فإن الحركة وبذل الجهد في سبيل الله، إن لم يكن وراءها زاد متجدد فإن عواقب وخيمة ستلحق بصاحبها، ويكفيك في بيان هذه الخطورة قوله ـ صلى الله عليه وسلم: «مثل الذي يعلم الناس الخير، وينسى نفسه، مثل الفتيلة، تضيء للناس، وتحرق نفسها»([7]).

… فلابد من الأمرين معا: لابد من الزاد، ولابد من التحرك بهذا الزاد.

إن العلاقة بين الزاد والحركة، كالعلاقة بين خزان المياه، وضغط المياه المتدفق من الصنبور المتصل به، فعلى قدركمية المياه في الخزان تكون قوة تدفقها من الصنبور، فإذا نقص منسوب المياه في الخزان بشكل كبير، فإن تيار الماء ينزل ضعيفًا من الصنبور، أما إذا ما أصبح الخزان فارغا، فإن الصنبور لن يخرج (ماء)، بل سيخرج (هواءً) وهذا هو حال الداعية الذي ينسى نفسه، ولا يتزود بما يحتاجه وينفعه، فهو قد ينجح في قيامه بأعمال دعوية بين الناس، لكنها أعمال غير مؤثرة أو منتجة .. يبذل جهدا، وينفق وقتا ومالا ولكن دون أثر إيجابي يُذكر، سواء على نفسه أو الآخرين.

لا استثناء لأحد:

.. لو جاز لأحد أن يترك نفسه بدون زاد، لجاز لسيد البشر محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمع انشغاله الشديد بتبليغ دعوة ربه، نجد الخطاب الإلهي الموجه إليه: “فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ”[الشرح: 7]، أي إذا فرغت من الجهاد، ودعوة الناس، فانصب للعبادة([8]).

والذي يتأمل واقعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجده حريصا على دوام ذكر الله، وقراءة القرآن، وقيام الليل، لدرجة أنه لم يترك القيام في سفر أو حضر كما أخبرت بذلك السيدة عائشة رضي الله عنها([9]).

ولك أن تتأكد أكثر وأكثر بضرورة عدم التهاون في التزود اليومي بالزاد النافع إذا ما قرأت هذا الحديث:

عن أوس بن حذيفة الثقفي أنه كان في الوفد الذين وفدوا على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من بني مالك فأنزلهم في قبة في المسجد، قال: فكان يأتينا فيحدثنا بعد العشاء، وهو قائم حتى يراوح بين قدميه من طول القيام.. فاحتبس عنا ليلة،

فقلنا: يا رسول الله لبثت عنا الليلة أكثر مما كنت تلبث! فقال: «نعم طَرَأ علىّ حزبي من القرآن، فكرهت أن أخرج من المسجد حتى أقضيه»([10]).

وعلى هذا النهج كان الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا دوما يوازنون بين الزاد والحركة، ويدركون خطورة إهمال التزود؛ فهذا عبد الرحمن بن عبد القاري يقص علينا قصة عجيبة حدثت له مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول: استأذنت على عمر بالهاجرة، فحبسني طويلا، ثم أذن لي وقال: إني كنت في قضاء وردي([11]).

وإن تعجب فعجبٌ فعل الأوائل في المعارك.. فعلى الرغم من الجهد العظيم الذي يُبذل في ساحات القتال إلا أننا نجدهم يحرصون على قيام الليل، وتلاوة القرآن، والتضرع إلى الله عز وجل!! ولك أن تتأكد من هذا المعنى بقراءة هذا الخبر:

بعد معركة القادسية؛ والتي استمرت بضعة أيام، وانتهت بانتصار جيش المسلمين على جيش الفرس أرسل قائد الجيش سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رسالة يبشره فيها بالفتح، فكان مما جاء فيها:

«وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد القارئ، وفلان، وفلان، ورجال من

المسلمين لا يعلمهم إلا الله، فإنه بهم عالم..كانوا يدوون بالقرآن إذا جن

عليهم الليل كدوى النحل، وهم آساد في النهار لا تشبههم الأسود»([12]).

هكذا كانوا:

وعندما ننظر إلى حال المصلحين الذين كان لهم أثر إيجابي في تاريخ

الأمة، نجدهم قد حققوا التوازن بين الاهتمام بتحصيل الزاد وبين الحركة وبذل الجهد في سبيل الله.

يقول القاضي ابن شداد عن القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي:

وأما الصلاة، فكان -رحمه الله- شديد المواظبة عليها، حتى إنه ذكر

يوما أنه من سنين ما صلى إلا جماعة، وكان يواظب على السنن

الرواتب، وكان له صلوات يصليها إذا استيقظ من الليل، وإلا أتى بها

قبل قيام الفجر، وكان -رحمه الله- يحب سماع القرآن العظيم، وكان

خاشع القلب، غزير الدمع، إذا سمع القرآن يخشع قلبه وتدمع عينه في

معظم أوقاته([13]).

وعندما نقرأ في رسائل الإمام المجدد حسن البنا، نجد أن هذا المعنى واضح تمام الوضوح في كلامه.

يقول -رحمه الله- في رسالة إلى أي شيء ندعو الناس:

إن مهمة المسلم الحق لخصها الله تبارك وتعالى في قوله: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ` وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ”[الحج: 77، 78].

.. هذا كلام بيِّن لا لبس فيه ولا غموض.. يأمر الله المسلمين أن يركعوا ويسجدوا وأن يقيموا الصلاة، وأن يفعلوا الخير ما استطاعوا…وتلك هي المهمة الفردية لكل مسلم التي يجب عليه أن يقوم بها بنفسه في خلوة أو جماعة.

ثم أمرهم بعد ذلك أن يجاهدوا في الله حق جهاده بنشر الدعوة وتعليمها بين الناس.

وقد كشف الله عن سر هذا التكليف وحكمة هذه الفريضة، فبين لهم أنه اجتباهم واصطفاهم دون الناس ليكونوا سُوَّاس خلقه، وأمنائه على شريعته، وورثة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في دعوته.. وتلك هي المهمة الجماعية التي ندب الله إليها المسلمين جميعا..أن يكونوا صفا واحدًا، وكتلة وقوة، وأن يكونوا هم جيش الخلاص الذي ينقذ البشرية ويهديها سواء السبيل.

ثم أوضح الحق تبارك وتعالى للناس بعد ذلك الرابطة بين التكاليف الفردية من صلاة وصوم.. بالتكاليف الاجتماعية، وأن الأولى وسيلة للثانية، وأن العقيدة الصحيحة أساسهما معا، حتى لا يكون لأناس مندوحة من القعود عن فرائضهم الفردية بحجة أنهم يعملون للمجموع، وحتى لا يكون لآخرين مندوحة عن القعود عن العمل للمجموع بحجة أنهم مشغولون بعباداتهم، مستغرقون في صلتهم بربهم.

([1]) رواه أبو داود(1546).

([2]) الزهد لابن المبارك برقم (927).

([3]) مجموع رسائل ابن رجب 1/352.

([4]) المحبة لله للجنيد.

([5]) في ظلال القرآن 4/2038.

([6]) المصدر السابق 4/1864.

([7]) صحيح، رواه الطبراني وصححه الألباني في صحيح الجامع (5837).

([8]) انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/479.

([9]) رواه أبو داود.

([10]) رواه أبو داود، وابن ماجه، وأحمد.

([11]) فضائل القرآن لأبي عبيد الهروي.

([12]) البداية والنهاية لابن كثير 7/50.

([13]) رهبان الليل لسيد حسن العفاني 1/435، 436.