المتأمل لسيرة رسولنا عليه الصلاة والسلام يجد أنه كان يعيش في حقيقة عبوديته لله عز وجل بكل ما تحمل هذه الحقيقة من معاني الذل والافتقار والانكسار لله عز وجل مع أنه لو جاز لأحد أن يفتخر ويعتز بمكانته لكان هو الأولى بذلك أليس هو خير البشر وأفضل الرسل وصاحب الشفاعة؟!
أليس هو من أَم الرسل والأنبياء في المسجد الأقصى في رحلة الإسراء؟
أليس هو الذي قال الله له: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] وأقسم بحياته قائلا: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] ومع هذا كله لم نجده صلى الله عليه وسلم إلا عبدا متواضعا منكسرا لله عز وجل لم يتعامل مع نفسه ولا مع الناس أبدا على أساس تلك المنزلة التي أكرمه الله بها لم يكن جلوسه في مكان مميز عن الآخرين بل كان يجلس بين أصحابه مختلطا بهم حيثما انتهى به المكان جلس.
وكان ينهى أصحابه عن القيام له فعن أبي أمامة قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئا على عصا فقمنا له فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضا. رواه أبو داود
وكان يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم [السلسلة الصحيحة: 2112]
ومن صور تواضعه صلى الله عليه وسلم أنه:
كان يمر بالصبيان فيسلم عليهم. رواه مسلم
وكان يؤتى بالتمر فيه دود فيفتشه يخرج السوس منه. رواه أبو داود
وكان يفلي ثوبه ويحلب شاته ويخدم نفسه. السلسلة الصحيحة 671
وكان يصغي للهرة الإناء فتشرب ثم يتوضأ بفضلها . رواه أبو داود
فإن كان هذا هو حال أفضل البشر وأعلاهم مرتبة عند الله عز وجل فماذا ينبغي علينا أن نكون؟
إن العزة الحقيقية أخي القارئ هي عزة العبودية لله عز وجل وذلك حين يضع المرء نفسه في مكانه الطبيعي أمام ربه كعبد ذليل لرب جليل فيحدث له تبعا لذلك الاتصال الحقيقي به ومن ثم يدخل في دائرة معيته وكفايته التي وعد بها عباده {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36].
وعندما تغيب هذه الحقيقة – حقيقة العبودية – فإن المرء يفقد مصدر عزته الحقيقية ليزداد تخبطه وشعوره بأن هناك شيئا ينقصه فيجتهد في البحث عنه من خلال تحصيل أسباب العزة الزائفة فيعرض نفسه بذلك لغضب الله ومقته وعقوبته وفي الوقت ذاته لا يصل إلى مبتغاه في تحصيل السعادة والسلام الداخلي “فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا” [التوبة: 55]
وكيف لا وقد قال سبحانه في الحديث القدسي: العز إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني بشيء منهما عذبته. متفق عليه
تأمل معي قوله صلى الله عليه وسلم: كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب ليَنتَهين قوم يفتخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان. [صحيح الجامع الصغير].
ومما يؤثر عن الإمام علي رضي الله عنه قوله: إن الرجل ليحب أن يكون شسع نعله أفضل من شسع نعل أخيه فيدخل في هذه الآية: “تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا” [القصص: 83]
إن الحقيقة التي لا ينبغي أن تفارقنا لحظة واحدة أنه لا يوجد شيء ذاتي يمكن للواحد منا أن يعتز به ويشعر أنه أرفع أو أميز ممن حوله بسبب امتلاكه له كالعزة بالشكل أو النسب أو السبق أو الثراء أو المركبة أو الأولاد أو الشهادة أو المسكن أو الملبس..
إن العزة الحقيقية هي عزة الانتساب لله عز وجل وذلك حين نرتدي رداء العبودية له ومن مظاهر هذه العزية الحقيقية الذلة للمؤمنين والعزة على الكافرين والمتكبرين ومن مظاهرها كذلك الرغبة الدائمة في الجلوس مع الفقراء والمساكين وإعزازهم وكذلك عدم المباهاة أو الافتخار بشيء من أعراض الدنيا وحب السجود على التراب وكراهية التصدر للقيام بالأعمال وغير ذلك من مظاهر التواضع.