تزكية النفس

معرفة حق الله على العبد ودورها في علاج العجب

كم تساوي نعمة البصر؟!

عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا عن جبريل عليه السلام: ” أن عابدًا عبد الله على رأس جبل في البحر خمسمائة سنة، ثم سأل ربه، أن يقبضه ساجدًا، قال جبريل: فنحن نمر عليه إذا هبطنا وإذا عرجنا،

ونجد في العلم أنه يبعث يوم القيامة فيوقف بين يدي الله عز وجل فيقول الرب عز وجل: أدخلوا عبدى الجنة برحمتي، فيقول العبد: يارب بعملي، يفعل ذلك ثلاث مرات، ثم يقول الله للملائكة: قايسوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله، فيجدون نعمة البصر قد أحاطت بعبادته خمسمائة سنة، وبقيت نعمة الجسد كله، فيقول: أدخلوا عبدي النار: فيجر إلى النار. فينادي: برحمتك أدخلني الجنة، برحمتك أدخلنى الجنة فيدخله الجنة.. قال جبريل: إنما الأشياء برحمة الله يا محمد[1].

إذن فلو عذب الله أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم.

فمهما عملنا واجتهدنا فلن يكون عوض هذا العمل النجاة من النار والفوز بالجنة، لذلك قال صلى الله عليه وسلم لصحابته: ” لن ينجي أحدًا منكم عمله ” قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ” ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة…الحديث “[2].

فإن كل فرد مطالب بشكر النعم التي حباه الله إياها، فإن أعماله كلها لن تفي بحق شكر نعمة واحدة، وسيبقى سائر النعم لا يقابلها شكر، فيصبح صاحبها مستحقًا للعذاب بذلك.

عن ابن عمر مرفوعًا: ” إن الرجل يأتي يوم القيامة لو وضع على جبل لأثقله فتقدم النعمة من نعم الله فتكاد أن تستنفذ ذلك إلا أن يتطاول الله برحمته”[3].

فمن استعظم عمله، ورأى أن له حقًا على الله به، طالبه سبحانه بحقه عليه.

قال وهب: عبد الله عابد خمسين عامًا، فأوحى الله إليه: إنى قد غفرت لك. قال: أي رب وما تغفر لي ولم أذنب، فأذن الله لعرق في عنقه يضرب عليه فلم ينم، ولم يصل، ثم سكن ونام، ثم أتاه ملك فشكا إليه، فقال: ما لقيت من ضربان العرق، فقال الملك: إن ربك يقول: إن عبادتك خمسين عامًا تعدل سكون العرق[4].

بين العدل والإحسان:

إذن فهناك طريقتان يحاسب الله عز وجل بها عباده: العدل والإحسان.

فمن دخل على الله عز وجل وكأنه يحمل دفترًا وقد سجل فيه كل أعماله ويريد عوضًا عنها، فقد عرض نفسه للعدل أي لمناقشة الحساب بل والعذاب والعياذ بالله.

ومن دخل على الله تعالى من باب الإفلاس التام، وعدم رؤية أعماله، واستقلاله لها، وشعوره بالتقصير الشديد في أدائه لحق الله، واليقين بأنه ليس له حق على الله عز وجل بعمله، وسؤاله الجنة بطريق الاستجداء… هذا العبد بهذا الشعور قد عرض نفسه لإحسان الله إليه وتلقى رحماته ومناقشته الحساب… حساب النعم.

عن أنس مرفوعًا: يؤتى بالنعم يوم القيامة، ويؤتى بالحسنات والسيئات، فيقول الله لنعمة من نعمه: خذي حقك من حسناته، فما تترك له حسنة، إلا ذهبت بها[5].

المغفرة أولًا:

من هنا يتبين لنا أن عملنا مهما كان حجمه، فلن يوجب بمفرده النجاة من النار، فضلًا عن دخول الجنة.. فلا أمل لدينا إلا في رحمة الله ومغفرته، وتجاوزه عن حقه علينا، وعدم محاسبتنا على نعمه.

مات داود الطائي فقام ابن السماك بعد دفنه يثني عليه بصالح عمله ويبكي والناس يبكون، ويصدقونه على مقالته ويشهدون بما يثني عليه، فقام النهشلي فقال: اللهم اغفر له وارحمه، ولاتكله إلى عمله[6].

أين نحن من عمر؟!

من هنا كان خوف الصالحين من الحساب يوم القيامة، ورؤيتهم الدائمة لأعمالهم بعين النقص.

فهذا عمر بن الخطاب عند موته يراه عثمان بن عفان وهو يقول: ويلي، وويل أمي إن لم يغفر لي.. قالها ثلاثًا ثم قضى[7].

وفى طبقات ابن سعد أن العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان خليلًا لعمر بن الخطاب، فلما أصيب عمر جعل يدعو الله أن يريه عمر في المنام، فرآه بعد حَوْل وهو يمسح العرق عن جبينه فقال: ما فعلت؟ قال: هذا أوان فرغت، وإن كاد عرشي ليُهَد لولا أنى لقيته رؤوفًا رحيمًا[8].

لماذا العمل؟!

قد يقول قائل: ولم العمل إذا كانت أعمالنا لن تكون سببًا في نجاتنا من النار أو الفوز بالجنة؟!

الإجابة عن هذا السؤال تستدعي منَّا تذكر مثال صاحب الدَين، والمَدِين، الذي تم ذكره في المقال السابق.

فصاحب الدَين عندما يرى استهتارًا من المدين وعدم مبالاته بالسداد، فإنه يعرض عنه ويغضب منه، ولا يفكر في إسقاط دينه، بخلاف من يراه مجتهدًا في السداد – مع عدم قدرته على الوفاء – فإنه قد يتجاوز عنه. قال تعالى: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [ الأعراف:56 ].

فالعمل والاجتهاد في فعل الخيرات ما هو إلا وسيلة لنيل الرحمة والمغفرة والتعرض للعفو والتجاوز.

لذلك نجد القرآن يطالبنا بالاجتهاد في العمل للتعرض للرحمة والمغفرة الإلهية، والتي إذا ما تمت للعبد فسيتبعها – بمشيئة الله – دخول الجنة، فضلًا ورحمة منه سبحانه.

قال تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [ آل عمران: 133 ].

ويقول سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [ البقرة: 218 ].

لذلك كان حال المؤمنين أنهم ﴿ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾ [ المؤمنون:60].

أي يفعلون ويفعلون من الطاعات والقربات ويخافون ألا يتقبلها الله منهم، لاستشعارهم أنها لا تليق بعظمته سبحانه، ولا بحقه عليهم، وهذا الشعور من شأنه أن يدفعهم للاستغفار بعد الطاعة، لا الإعجاب بها أو استعظامها.

قال الحسن البصري: لقد أدركت أقوامًا إذا عملوا الحسنة دأبوا على شكرها وسألوا الله أن يقبلها، وإذا عملوا سيئة أحزنتهم وسألوا الله أن يغفرها، فما زالوا على ذلك، فوالله ما سلموا من الذنوب، وما نجوا إلا بالمغفرة.


[1] أخرجه الحاكم (4/278، رقم 7637) وقال : صحيح الإسناد . والبيهقي في شعب الإيمان (4/150، رقم 4620)، وضعفه الألباني في الضعيفة برقم 1183.

[2] متفق عليه البخاري (5/2373 ، رقم 6102) ، ومسلم (4/2171 ، رقم 2818).

[3] أخرجه الطبراني في الأوسط، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب برقم 937.

[4] عدة الصابرين ص 217.

[5] أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر.

[6] المحجة في سير الدلجة لابن رجب ص 42 – دارالبشائر الإسلامية – بيروت.

[7] الزهد للإمام أحمد 118.

[8] الطبقات الكبرى لابن سعد 3/286 – دار الكتب العلمية – بيروت.