الإيمان والحياة

الرضا عن النفس أصل كل معصية

لما أمر الله الملائكة أن تسجد لآدم سجدوا إلا إبليس عليه لعنات ربي، فلما سأله رب العزة عن سبب امتناعه عن السجود قال: { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12]، لقد أعماه إعجابه بنفسه ورضاه عنها فلم يستوعب أهمية الأمر الصادر من رب كل شيء ومليكه، لقد أصيب بمرض العمى الذي ذكر في آيات القرآن الكريم، {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].

وكم من مسلمين وغير مسلمين يصابون بهذا المرض فهو يرفض أن يفكر في هدي السماء ولا يسمع لربه نداء، بل لا يرضى أن يضع نفسه في دائرة النقد الذاتي ومحاسبة النفس كل ذلك بسبب رضاه عن نفسه وإعجابه بها.

ولقد تكرر ذم هذه الصفة في مواضع مختلفة من كتاب الله تعالى، قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 34 – 36].

هذه نوعية من البشر رفضت الحق وأعلنوا كفرهم برسل ربنا، ولديهم اعتقاد قوي أنهم لن يعذبوا، ودليلهم على ذلك كثرة نعم الله التي بين أيديهم، ففي ظنهم أن من دلائل رضا الله عنهم هذه النعم التي أعطاهم إياها.. فالنعمة التي نزلت بهم، وكانت تستوجب الشكر والفرار إلى الله استخدموها بسبب إعجابهم بأنفسهم دليلًا على معارضة دعوة الرسل، لذا رد الله عليهم بأن المال الكثير ليس دليلًا على رضا الله عن العبد، والفقر ليس دليلًا على ذم الله للعبد وغضبه عليه. لذا أكد القرآن الكريم هذا المعنى بقوله: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55، 56].

وكلما زادت مكانة العبد من ربه ازداد وجلًا وخوفًا من ربه، وزادت مذمته لنفسه وعدم رضاه عنها، ويفسر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60].. إنهم يُصلون ويتصدقون ويخافون ألا تُقبل منهم طاعة، ولقد كان من دعاء رسولنا صلى الله عليه وسلم: «يا مقلب القلوب والأبصار ثبِّت قلبي على دينك» وكان عليه صلوات ربي يقول: «اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى».. فهذا النبي المعصوم والنبي الخاتم، وهذا هو دعاؤه! فماذا نفعل نحن والله تعالى يقرر في كتابه {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99] فغضب الله قد يسلط على العبد إذا أخطأ وكلنا عرضة للخطأ ، لذا ترى أهل الصلاح كلما تم وفاض صلاحهم تسمع أنين قلوبهم وتشاهد دموع الخوف والخشية تساقط على صدورهم، فهذا عمر إمام المبشرين بالجنة بعد أبي بكر رضوان الله عليهم يسأل حذيفة بن اليمان. وهو الذي خصه الرسول صلى الله عليه وسلم بأسماء المنافقين .. يقول: يا حذيفة، أأنا منهم؟ أأنا منهم؟ وتدمع عين حذيفة وهو يجيب بالنفي.. عمر يخاف ويتهم نفسه بالنفاق، وهو الذي لقبه سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم بالفاروق، يقول لحظة وفاته: يا ليت أمي لم تلدني ياليتني كنت نسيًا منسيًا.. يقولها وهو طريح على الأرض يتوسل لربه أن يرحمه في لحظات إقباله عليه .. وهو الذي تمنى ونال ما تمنى: شهادة في بلد نبيه، وينالها في صلاة الفجر، وما أدراك ما صلاة الفجر، وفي محراب نبينا صلى الله عليه وسلم .. وهكذا العارفون بالله كلما تعمقت معرفتهم بربهم سيطرت عليهم خشيته منه وذمهم لأنفسهم. يقول ابن عطاء الله السكندري، وهو من كبار أطباء النفوس في الفكر الإنساني كله – عليه رحمة الله – أصل كل معصية وغفلة وشهوة الرضا عن النفس، وأصل كل طاعة ويقظة وعفة عدم الرضا منك عنها. ولأن تصحب جاهلًا لا يرضى عن نفسه خير لك من أن تصحب عالمًا يرضى عن نفسه. فأي علم لعالم يرضى عن نفسه. أ.هـ .. ويقول صحابي جليل: لقيت ثلاثين بدريًّا – أي: ممن حضروا غزوة بدر – وما من أحد منهم إلا وهو يخشى على نفسه النفاق.

فالراضون المعجبون بأنفسهم لا يقبلون نصيحة ولا يستمرون في طاعة، وهم إلى المعصية والشرك أقرب منهم للإيمان.. لن يرقى أحدهم من مستوى إلى آخر {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 206].

ويقال في التفسير أن الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم: يوسف عليه السلام قال: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف: 53].

فمن دلائل قربك من ربك رؤيتك لمواضع التقصير وذلك لنفسك وكثرة التوبة مما علمت وما لم تعلم من ذنوبك.. ولقد علمتنا السيرة النبوية أن نستغفر الله بعد الطاعة {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} [البقرة: 199] هذا من الإفاضة من عرفات لحجاج بيت الله الحرام، والله تبارك وتعالى يرشد المستغفرين بالأسحار وهم في لحظات القرب من رحمات الرحيم سبحانه وتعالى {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18]، ويمدح لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه.

ورحم الله عبد الله بن عمر بن الخطاب رضوان الله عليهما يتمنى أن يقبل الله منه ركعة واحدة ويتعجب السامعون من مقالته هذه فيقول لهم أما علمتم قول الله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].

ويذم القرآن الكريم مواقف لبني إسرائيل، فكان مما سبب طغيانهم وإعراضهم عن ربهم قولهم {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]، وقولهم: { قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [آل عمران: 24]، وفي المسلمين اليوم من يفكر بنفس أسلوب بني إسرائيل.. فيعرضون عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم وهم يرون أنفسهم أهل شفاعته يوم القيامة.

فهل رجع المرء لنفسه ذامًا لها.. كي يأخذ بناصيتها إلى ربها.. يُسجدها لأمر رب العالمين ولسان حاله يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84].