الإيمان والحياة

الغريق الجائع

لو أن رجلا ظل يسبح في البحر مدة طويلة، وأثناء ذلك بدأ يتملكه شعور بالجوع، فنادى على أهله الجالسين على الشاطئ يستحثهم للإسراع بتجهيز الطعام لأنه جائع.. جائع! وفي طريق عودته جاءت سلسلة من الأمواج المتلاحقة فسحبته إلى الداخل فبدأ يصارعها ويقاومها وهي تجذبه إلى أسفل، وأهله ينظرون إليه، وبين أيديهم الطعام الذي بدؤوا في إعداده له، فهل ترى سيستمرون في هذه الإعداد أم سيسارعون إلى إنقاذه؟

هذا سؤال بديهي لن تخرج إجابته من أي عاقل عن ضرورة المسارعة إلى نجدته قبل التفكير في إطعامه؛ فإنقاذ حياته هو الأولى والأهم في هذا الوقت. ولكن هل ستكون الإجابة بهذا الوضوح عند التعامل مع إنسان جائع يغرق في الضلال؟!

وبصيغة أخرى: لو وجدنا قوما جائعين وهم في الوقت ذاته بعيدون عن الدين، وعن القيام بتعاليمه وفرائضه، فماذا علينا أن نفعل معهم؟

هل نتوجه بكل طاقاتنا لسد جوعتهم وستر عورتهم فقط؟ أم أن هناك عملا ضروريا يجب أن يسبق ذلك ويصاحبه؟

الإجابة عن هذا السؤال تستلزم معرفة الغاية من وجودنا على الأرض: فالله عز وجل خلق لنا الأرض “هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا” [البقرة: 29] وسخر لنا كل شيء فيها “وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ” [الجاثية: 13] كل ذلك لنقوم بوظيفة عظيمة ألا وهي عبادته سبحانه: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونَ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّنْ رِِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57)” [الذاريات: 56، 57]

إن سبب وجودنا على الأرض هو عبادة الله عز وجل: “وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ” [البينة: 5] فقيمتنا الحقيقية أمام ربنا مرتبطة ارتباطا وثيقا بأدائنا لهذه الوظيفة وأنه سبحانه لا يعبأ بنا لو انحرفنا عنها “قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ” [الفرقان: 77] يقول الإمام ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: أي لا يبالي ولا يكترث بكم إذا لم تعبدوه فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه ويسبحوه بكرة وأصيلا.

فلا قيمة للإنسان حين يتخلى عن عبادة الله عز وجل، بل إنه بهذا التخلي يهبط من مكانته العظيمة التي خلقه الله فيها وكرمه بها إلى أحط منزلة يمكن أن يصل إليها مخلوق “لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)” [التين: 4، 5] لذلك كانت دعوة جميع الرسل إلى أقوامهم تنصب في هذا المعنى: “إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ” [فصلت: 14] “مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ: أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبِّكُمْ” [المائدة: 117]

تأمل أخي القارئ قوله ــ صلى الله عليه وسلم ــ وهو يصف حال البشرية قبل بعثته وكيف كان ضلالهم، ومن ثم غضب الله عليهم: “إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب” [رواه مسلم]

لقد خلق الله عز وجل الأرض وما فيها من مال وذهب وزينة لتكون خادمة للإنسان، وخلق الإنسان ليكون عبدا له، قال صلى الله عليه وسلم: “إن الله قال: إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة” [صحيح الجامع الصغير: 1781] وكلما ابتعد العبد عن القيام بحق من حقوق من العبودية فإنه يعرض نفسه لخطر عظيم، لا ينجيه منه إلا العودة السريعة إلى مولاه وإلى فعل ما يرضيه، ويكفيك تأكيدا لهذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: “إن لله ملكا ينادي عند كل صلاة: يا بني آدم قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها فأطفئوها” [صحيح الترغيب والترهيب: 352] وقوله: “تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم حتى تستيقظوا. [صحيح الترغيب والترهيب: 351]

ومما يؤكد هذا المعنى أن الله جل شأنه قد جعل الوظيفة الأساسية للمؤمنين حين يمكنوا في الأرض هي العمل على القيام بحقوق العبودية له، فقال سبحانه: “الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ” [الحج: 41]

من هنا نقول: عندما تبتعد الأمة عن القيام بحقوق الله فهي في حالة غرق، ومن ثم فإن على كل من لديه عاطفة دينية ورغبة في الإصلاح أن يستشعر واجبه تجاهها وأن يبذل غاية جهده في إنقاذ نفسه وإخوانه المسلمين، وليس معنى ذلك هو تركهم يعانون الجوع والفقر، ولكن المقصد هو الترتيب الصحيح للأولويات والحرص على الجمع بين الأمرين إن تيسر ذلك، وكما يقول علماء الأصول بأنه في حالة التعارض بين مصلحتين فإن الخطوة الأولى هي الاجتهاد في الجمع بينهما، فإن تعذر ذلك كان البدء بالأهم فالمهم، ويقينا فإنه من اتقد قلبه حرقة على دينه وصح عزمه على خدمته فإنه سيهتدي بإذن الله إلى الجمع بين المصلحتين، شريطة أن يكون المقياس الذي يقيس به نجاحه هو مدى التقدم الذي يجريه الله على يديه في عودة الشاردين إلى ربهم، ولنتذكر دوما قوله صلى الله عليه وسلم: “لأن يهدي الله على يديك رجلا واحدا خير مما طلعت عليه الشمس” [متفق عليه]