الكاتب: حسن البنا
﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ [الأنعام : 122].
هذا القرآن حياة ونور ، ما في شك في ذلك .
والقلوب قسمان : حي ، وميت . والقلوب الحية هي التي تعتبر فعلًا . وأما القلوب الميتة فلا وجود لها ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق : 37].
والقلوب الحية تتذوق طعم الكلام الجيد والرديء ، وتدرك تمام الإدراك مرمى الآيات البينات ومغزاها القريب والبعيد .
وتنظر وترى معالم المشاهد والمرئيات وتميز بين الضار المهلك والنافع المفيد ، وتشعر بهذا كله شعورا قويا ، وتحس به إحساسا دقيقا يحدد لها مثلها العليا وغاياتها السامية ، فتوجه إليها الجهود جميعًا من قول وعمل ، وتدفع الجوارح والأبدان قدما في هذا السبيل، حتى تصل إلى ما تريد مهما صادفها من عناء أو لقيت من مشقة وبلاء
وإذا كانت النفوس كبارًا
تعبت في مرادها الأجسام
وهذا القرآن الكريم بما يحمل من طبائع الربانية وخصائص الكلام الإلهي وبما ينطوي عليه من معاني التأثير الكامل في القلوب الواعية والنفوس الصافية ، وبما تميز به من سحر الفصاحة ، وإعجاز البلاغة وحلاوة الأسلوب ، وعذوبة المنطق وعلو الذوق وجمال التركيب ، وصادق التوجيه وصحيح المعرفة – هذا القرآن بخصائصه هذه روح من الله تبارك وتعالى ، ينفخ في القلوب الهامدة ، ويسكب في تجاويف الأفئدة الميتة ، فيحييها ويبعثها ويحركها ، ويعيد إليها كل معاني الحياة القوية الدافئة المنتجة المؤثرة ، وهو بهذه الخصائص كلها نور قوي وهاج ، يضيء لها سبيل السير والسلوك بعد أن وهب لها حس الحياة وقوة الإحياء:
﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴾ [الشورى : 52 ، 53].
ومن هنا وهب القرآن الرعيل الأول من رجال هذه الأمة من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان حياة جديدة في كل شيء ،ونورًا جديدا أضاء لهم السبل لكل شيء ، فأحياهم بعد جمود ، وجمعهم بعد فرقة ، وأغناهم بعد فاقة ، وجعلهم أئمة الدنيا ، يهدون الناس بإذن ربهم إلى طريق العدل ، وسبل الخير ، ووسائل السعادة والسلام ، وكانوا المثل الحية للقلوب الحية .
ذكرت هذه المعاني ودارت بخلدي جميعا ، وقد ضمتني حنايا الحرم المبارك وبدت أمام ناظري الكعبة المشرفة ، عالية البنيان ، قوية الأركان ، خالدة المجد ، وضاحة السنا ، مشرقة الضياء والنور، تطوف بها آناء الليل وأطراف النهار ، خلال العام كله هذه الملايين من القلوب الوالهة المشوقة ، المؤمنة بالله رب البيت العتيق والحرم العتيق ، تستجيب لندائه كل يوم ، وتبذل في سبيل الحج إلى بيته الحرام ما تملك من وقت وجهد ومال.
وسألت نفسي وأنا أسمع دعاء هذه الألوف من الناس ، كلٌ يدعو بما يحب ، ودع عنك هذه الصيغ التقليدية التي يلقنها المطوفون للداعين ، فيردد منهم مالا يشعر بأثره في نفسه ولا يجد حلاوته في قلبه ، أجل دع عنك هذا فما عن هذا سألت نفسي ، ولكني إنما كنت أتصفح وجوه وقلوب هذه الآلاف لأستشعر مبلغ الحياة التي قذف بها القرآن الكريم في صميمها ، ولا تعرف مدى شعورها بالمثل العليا ، والأهداف الإنسانية الفردية والأسرية والقومية والعالمية التي حددها الإسلام للمؤمنين به . ولأسأل نفسي بعد ذلك :
ترى لو أن هذه الألوف المؤلفة من مختلف أقطار الوطن الإسلامي من الصين إلى مراكش ، ومن أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ، تيقظ فيها معنى الحياة التي يقذف بها القرآن في نفوس أتباعه ، هل كانت حالتهم تظل على ما هي عليه الآن من ضعف واستكانة ؟
أظن أن ذلك يكون من المستحيلات .
ولم أشأ أن استرسل في هذه السلسلة من الخواطر ولكني توجهت إلى الله العلي الكبير ، ودعوت بإيمان وخشوع وضراعة وأنا في حضن الملتزم ، وفي ظل ستر الكعبة المباركة : اللهم أحيي هذه القلوب بكتابك.