مع المتدبرين

الله نور السماوات والأرض

الكاتب: أبو الحسن الندوي

﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [النور : 35 ، 38].

حدثتنا هذه الآيات عن سر الحياة، عن سر القوة والحركة والنشاط، عن سر البهجة والأنس، عن سر الجمال الفاتن، عن سر كل ما في هذا العالم من حَسَن وجميل ، وحي نام.

﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ هذا هو النور الذي أفاض على هذا العالم فأضاء الكون وأشرقت الأرض بنور ربها .

ولكنه نور لا كالنور ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [الشورى : 11]، ولكنه لا يُفهم إلا بالأمثلة الحكيمة البليغة : ﴿ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ ﴾ .

إن هذا النور عام قد عمَّ الكون، وعم الشرق والغرب ، وأشرق على البر والبحر، والسهل والجبل ، والحيوان والجماد ، ولكن لا يهتدي إليه إلا من فتح الله بصيرته وشرح صدره للإسلام فعرف الله معرفة صحيحة ، وتوصل من الكون إلى فاطر الكون : ﴿ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ﴾ [الزمر : 22] ، وفكر في هذا العالم بنور من ربه فوصل إلى النتائج الصحيحة وطرب بها ﴿ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران : 191]، فالاهتداء إلى هذا النور سعادة لا ينالها إلا من أردكته العناية الإلهية والهداية الربانية ﴿ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾.

هذه الهداية عن طريق الأنبياء والرسل الذين أكرمهم الله برسالاته وكتبه ، فقال: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة : 15 ، 16]، ولذلك يقول المهتدون يوم القيامة : ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ﴾ [الأعراف : 43] .

ويُبحث عن كل شيء في محله ومركزه ، ويبحث عن هذا النور وعن هذه الهداية في المساجد التي أُسست على التقوى ، وأقيمت للعبادة والذكر والعلم: ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ﴾ ، ولكن الإسلام ، ولكن كتاب الله لا يدعو إلى الرهبانية ، إنه يدعو إلى الاشتغال ، وأكل الحلال ، إنه يمدح من يجمع بين الدين والدنيا في الدعاء: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة : 201]. ويجمع بين التجارة والعبادة في الحياة بحيث لا تلهيهم التجارة والصفق بالأسواق عن أداء الفرائض والصلوات ، وقد سماهم : الرجال ، فقال : ﴿ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ﴾، ولا تشغلهم زينة الحياة الدنيا ، وصخب الأسواق عن تذكر يوم شديد عسير لابد منه: ﴿ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾.