إنك –ياصاح- إذ تتخلق بالقرآن وتتحقق بمعانيه؛ تنبعث أنت نفسك جنديا من جند الله؛ بل أنت آنئذ جزءٌ من قَدَر الله! وتدبر كيف جعل الله من أتباع موسى عليه السلام أداة قدرية شق بها البحر! تأمل هذا جيدا: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ!)(البقرة:50) فالله جل جلاله فرق البحر ببني إسرائيل لما كانوا مؤمنين، ولم تكن عصا موسى إلا أداة للفرق، أما العامل الفاعل – بإذن الله – فإنما هو عزائم الإيمان التي استبطنها كثير من أتباع موسى فكانوا جزءاً من الخارقة نفسها ولم يكونوا غيرها! فتأمل: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ!) هكذا: (بِكُمْ) وليس (لَكُمْ)! وإن كان معنى هذه مُتَضَمَّناً في الأولى، ولكنَّ القصدَ بيانُ أن العبد إذا صار وليا لله كان أداةً بين يدي الله – سبحانه – في تنفيذ قدَره في التاريخ! واقرأ إن شئت ما ورد في الحديث القدسي: (من عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب!) إلى قوله عنه: (فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يبطش بها، ورجلَه التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه!)[1]
ألا يا حسرة على العباد حقا! وعلى هؤلاء المسلمين بشكل خاص!
وإذن؛ فإن هذا القرآن لو صرَّفه أهلُه حركةً في الأرض لكان أقوى من أن تـثبت أمامه كلمات الشيطان وسحر الإعلام، بل هو الحق الذي قال فيه الحقُّ جلَّ جلالُه: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ! وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ!)(الأنبياء:18). لا طاقة لكهان السياسة ببرهانه! ولا قِبَلَ لدجاجلة الإعلام بسلطانه! ولا ثبات لطاغوت الأرض أمام رجاله! (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ!)(الحشر:21). وكيف لا؟ وهو قد جاء بفهرست الوجود كله! كيف وقد تنَـزَّلَ بديوان الكون كله! وإن ذلك لَقولُ الحقِّ جلَّ علاه: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ!)(الأنعام:38). قال: (مِنْ شَيْءٍ!) يعني: (مِنْ شَيْءٍ!) وإنما جاءت الآية في سياق الخَلْقِ والتكوين لا في سياق التشريع كما توهم بعضهم! فهو شمول أوسع من مجرد الأحكام والحدود بكثير، شمول يسع العمران البشري كله، بل يسع عالم الملك والملكوت بما امتد إليه من غيب مجهول!
إن القرآن عندما يأخذه الذين (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ)(البقرة:121) يكون بين أيديهم نورا يبدد ظلمات الضلال، وزلزالا يخسف بحصون الإفك والدجل أنى كانت، ومهما كانت! واقرأ قصة موسى مع سحرة فرعون فإن فيها دلالة رمزية عظيمة على ما نحن فيه، في خصوص زماننا هذا! ذلك أن “كلمة الباطل” كانت تمثلها آنئذ زمزمات السحرة، فتجردوا لحرب كلمة الحق التي جاء بها موسى، وخاضوا المعركة على المنهج نفسه الذي يستعمله الباطل اليوم، إنه منهج التكتلات والأحلاف! تماما كما تراه اليوم في التكتلات الدولية التي تقودها دول الاستكبار العالمي ضد المسلمين في كل مكان! اقرأ هذه الكلمات مما حكاه الله عن سحرة فرعون لما قالوا: (فَأَجْمِعُوا كيدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنْ اسْتَعْلَى!)(طه:64)..
إنه إجماع على الكيد، كهذا المسمى في السِّحر الإعلامي المعاصر: (بالإجماع الدولي) و(الشرعية الدولية)! والمواجهة لا تكون إلا بعد جمع كلمة الأحلاف وصنع الائتلاف؛ لمحاصرة الحق من كل الجوانب الإعلامية والاقتصادية والعسكرية! (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا!) ثم يكون توريط المشاركين وتورطهم في الغزو بصورة جماعية، ولو بصورة رمزية! وذلك للتعبير عن “الصف” في اقتراف الجريمة، فيتفرق دم المسلمين في القبائل! قالوا: (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنْ اسْتَعْلَى!) وتلك والله غاية دول الاستكبار العولمي الجديد، التي يصرح بها تصريحا: السيطرة على العالم بالقوة! والتحكم في مصادر الخيرات والثروات!
ولكن أين أنت أيها الفتى القرآني؟
أنت هنا!.. اقرأ تتمة القصة وتأمل: (قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى. قَالَ بَلْ أَلْقُوا..! فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى. فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى. قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى. وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى!)(طه:64-69). إن القرآن الذي بين يديك أشد قوة من عصا موسى قطعا! فلا تبتئس بما يلقون اليوم من أحابيل ثقافية وإعلامية وسياسية وعسكرية! لا تبتئس بترسانة النظام العالمي الجديد وآلياته الضخمة! حَذَارِ حَذَارِ! وإنما قل لهم: (بَلْ أَلْقُوا!).. وَتَلَقَّ عن الله كلماته بقوة، أعني قوله تعالى: (قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى!) وبادر إلى إلقائها بقوة، كما تلقيتَها بقوة: (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى!) إنَّ كلمات القرآن عندما تُـتَلَقَّى بحقها تصنع المعجزات! فإذا أُلْقِيَتْ بقوة أزالت الجبال الرواس، من حصون الباطل وقلاع الاستكبار! ولذلك قال الله لرسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ)(النمل:6). وأمره بعد ذلك أن يجاهد الكفار بالقرآن جهادا كبيرا! وهو قوله تعالى: (فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا!)(الفرقان:52). والمقصود بمجاهدة الكفار بالقرآن: مواجهة الغزو الثقافي والتضليل الإعلامي بمفاهيم القرآن وحقائق القرآن!
إن تلك الثقافة وذلك التضليل هما اللذان يجعلان الشعوب تقبل أن تكون حقولا لتجريب أحدث أسلحة الدمار والخراب! إن العبد لا يكون عبدا تحت أقدام الجلاد؛ إلا إذا آمن هو أنه عبد! ووطَّنَ نَفْسَهُ للعبودية! مستجيبا بصورة لاشعورية لإرادة الأقوياء. وذلك هو السحر المبين. والقرآن هو وحده البرهان الكاشف لذلك الهذيان! متى تلقته النفس خرجت بقوة من الظلمات إلى النور!
فيا له من سلطان لو قام له رجال!
[1] رواه البخاري