تزكية النفس

النفس والتربية النفسية

إذا كان من الواجب علينا تغذية العقل بالعلم النافع الراسخ وهو العلم بالله تعالى، وكذلك تغذية القلب بإيمان قوي يتغلب على الهوى، فإن ثمة عقبة قد تعتري سالك هذا الطريق تحتاج إلى نوع آخر من التربية،

تلك العقبة هي (النفس)، والنفس تعرف بأنها مجمع الشهوات والغرائز داخل الإنسان.

وهي بهذا تطلب حظها بإلحاح شديد دون نظر إلى العواقب، مثلها في ذلك مثل الطفل الصغير يريد أن يحصل شهوته بأي طريقة ولا يبالي في ذلك بضرر قد يحدث أو بكارثة قد تقع،

فهي تهوى الراحة وتكره التكليف وتتلذذ بالشهوات المباح منها والمحظور، وهذه كلها شهوات واضحة جلية.

لكن أعظم وأخطر شهوة للنفس هي تلك الشهوة الخفية والتي قد تخفى على صاحبها وهي شهوة الـ(أنا)، شهوة الإعجاب بالنفس والشعور بالتميز عن الآخرين “أنا خير منه”!!

هذه الشهوة يمكنها أن تذهب بالمرء وبأعماله كلها إلى النار والعياذ بالله، حتى ولو أفنى عمره كله في قيام الليل وصيام النهار… لماذا؟ لأن المعجب بعمله لا يستعين بالله، إذ أنه يشعر بأن له فضل ذاتي وأن له قدرة ذاتية هي السبب في نجاح العمل.

حتى ولو قال بلسانه أن الله هو المستعان فإنه بلسان حاله يشعر بأن له قيمة وفضل ذاتي في تحقق العمل وإلا فكيف يعجب بعمل ليس له فيه فضل وليس له فيه يد ولا حيلة؟!

إنه في ذاته يقول: أنا عندي موهبة كذا وكذا، وأستطيع أن أفعل كذا وكذا، فمن أين له هذه الثقة؟ والله عز وجل قائم على كل نفس يمدها لحظة بلحظة وآناً بآن!! وأنّى للمعجب بنفسه أن يعرف أنه يستطيع فعل كذا  “أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهداً”؟

تخيل لو أن الحاسب الآلي قد منح الشعور كالإنسان فهل له أن يعجب بإمكاناته وبما له من قدرة على معالجة المعلومات وتخزينها وكل مفاتحه في يد صاحبه؟ هو الذي يمده بالبيانات …بل هو الذي يمده بالتيار الكهربي الذي لو قطعه عنه ما استطاع أن يفعل شيئاً مهما كانت إمكاناته أو سعة تخزينه!!

ألا ترى أنه لو حمد نفسه ونسب الفضل لها دون صاحبه فهو مجحف وهاضم لحق صاحبه؟ بل إنه لو نسب الفضل له ولصاحبه فهو ظالم أيضاً، إذ أنه ليس له من الأمر شيء، فهو بدون صاحبه لا شيء سوى قطعة من الحديد!!

فكذلك الإنسان ليس عنده ما يعجب به لأنه بدون المدد الإلهي لا شيء.

فإن تركت النفس بدون تزكية فإن هذا المعنى يغيب عنها، ويسيطر عليها –شيئاً فشيئاً-الشعور بالتميز وبالفضل الذاتي.

وخطورة هذا الشعور أنه يستجلب غضب الله تعالى، قال عليه الصلاة والسلام: ” النادم ينتظر الرحمة، والمُعجب ينتظر المقت”[1]

وقال صلى الله عليه وسلم: ” من تعظم في نفسه، واختال في مشيته، لقى الله وهو عليه غضبان”[2].

هذا الشعور يهلك صاحبه قال صلى الله عليه وسلم: ” فأما المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه”[3]

إن الشعور الذي يجب أن يسيطر على الإنسان هو أنه عبد لله، والعبد ليس عنده ما يختال به أو يعجب به بل إنه كسير مسكين لمولاه لا يرى أن له فضلاً بل يرى نفسه صغيراً وفقيراً، وهذه حالته مع نفسه ومع غيره من العبيد فكلٌ عبد لله تعالى وهو وحده السيد والمولى وهو وحده الذي له الكبرياء والعظمة.

أخرج ابن المبارك في الزهد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أُتي له بطعام فقالت له عائشة: لو أكلت يا نبي الله وأنت متكئ كان أهون عليك. فأصغى بجبهته حتى كاد يمس الأرض بها. قال: ” بل آكل كما يأكل العبد، وأنا جالس كما يجلس العبد، فإنما أنا عبد “[4].

هكذا يرى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، وهكذا كانت حالته في حياته كلها، فهو يسلم على الأطفال ولا يرى في ذلك حرجاً وتأتي الهرة فيصغي لها الإناء حتى تشرب ثم يتوضأ بفضلة شربها، لم يأكل على خوان يجلس كالعبد ويأكل كالعبد فهو يرى نفسه عبداً، ولذلك فقد رفعه الله عز وجل وجعله خير عبد له تبارك وتعالى.

وهذا هو مستهدف التربية النفسية -أو ما يسمى في القرآن الكريم بالتزكية  “قد أفلح من زكاها”-: وهو أن يصل المرء إلى حقيقة (أنه بنفسه لا شيء، وأنه بالله لا بنفسه).


[1] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان برقم ( 7254 ) .

[2] صحيح، رواه الإمام أحمد في مسنده، والبخاري في الأدب المفرد عن ابن عمر، وأورده الألباني في صحيح الجامع ح ( 6157 ) والصحيحة ح ( 543 ) .

[3] حسن، أخرجه الطيالسي عن ابن عمر، وأورده الألباني في صحيح الجامع ح ( 3045 ).

[4] أخرجه ابن سعد (1/371)،  والبيهقي في شعب الإيمان (5/107،  رقم 5975)، وعبد الرزاق عن معمر في الجامع (10/417،  رقم 19554)، وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة برقم 441 .